الإجابة
الحمد لله
هذا الفعل يسمى في فنون اللغة العربية بـ " الاقتباس "، ويعرف بأنه : تضمين الكلام
شيئا من القرآن أو الحديث من غير نسبته لهما ، سواء مع تغيير بعض كلماته أو
بالمحافظة على نصه .
والأصل العام في مثل ذلك : وجوب تناسب السياق والمقام ، بوجه من وجوه المناسبات
والدلالات اللغوية المعتبرة ، مع ما اقتبس من آيات القرآن .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَلَيْسَ لأحد اسْتِعْمَال القرآن لغير مَا أنزله الله لَهُ ؛ وَبِذَلِك فسر
الْعلمَاء الحَدِيث المأثور : ( لَا يُناظر بِكِتَاب الله ) أَي : لَا يُجْعَل لَهُ
نَظِير يذكر مَعَه ، كَقَوْل القائل لمن قدم لحَاجَة : لقد جِئْت عَلى قدر يَا
مُوسَى ، وَقَوله عِنْد الْخُصُومَة : مَتى هَذَا الْوَعْد ، وَالله يشْهد إِنَّهُم
لَكَاذِبُونَ .
ثمَّ إِن خرجه مخرج الاستخفاف بِالْقُرْآنِ والاستهزاء بِهِ : كفر صَاحبه !!
وَأما إِن تَلا الْآيَة عِنْد الحكم الَّذِي أنزلت لَهُ ، أَو يُنَاسِبه من
الْأَحْكَام : فَحسن ؛ وَمن هَذَا الْبَاب: مَا يبنه الْفُقَهَاء من الْأَحْكَام
الثَّابِتَة بِالْقِيَاسِ ، وَمَا يتَكَلَّم فِيهِ الْمَشَايِخ والوعاظ " .
انتهى من "مختصر الفتاوى المصرية" (172) .
وقد ألف فيه السيوطي رسالة بعنوان : " رفع الباس وكشف الالتباس في ضرب المثل من
القرآن والاقتباس " تنظر في " الحاوي للفتاوي " (1/305). وسبق في موقعنا تفصيل
الكلام على هذا الضرب من ضروب الكلام ، يمكن مراجعتها في الفتاوى ذوات الأرقام
الآتية : (1643) ،
() ، ()
، () .
ويمكننا أن نستدل من جملة الفتاوى السابقة على تحريم الأمثلة الواردة في السؤال ،
وذلك للأدلة الآتية :
أولا :
يظهر من سياق العبارات المقصودة أنها سيقت لأجل الاستهزاء والسخرية ، واستعمال
القرآن الكريم أداة للاستهزاء من أشنع ما يمارس تجاه هذا الكتاب الكريم ، الذي
أنزله الله عز وجل كتاب نور وهداية ، فكانت كلماته نماذج تتأسى بها البشرية ، تستدل
بمنطوقها ومفهومها وإشارتها ، وتقوم عليها الدراسات التاريخية واللسانية والجغرافية
والعلمية ، وتبنى على أساسها النظريات الأخلاقية والحضارية . إذا استحضرنا ذلك كله
وأعظم منه ، فهل سيبقى تردد في بشاعة قول من يقول : ( وحملها الإخوان ) بدلا من (
وحملها الإنسان ) في الآية الكريمة من سورة الأحزاب ، يستهزئ بفئة من المسلمين !
وهل ثمة لغة من الامتهان للفظ القرآن ومعناه ، أكثر من هذه اللغة !!
ثانيا :
ساءنا كثيرا ما رأيناه في بعض وسائل الإعلام غير المسؤولة ، من صحف ومجلات وفضائيات
وغيرها ، تستغل الأحداث المؤلمة الأخيرة في تاريخ الأمة الإسلامية ، وتستعمل القرآن
الكريم بطريقة الاقتباس لمخاطبة المتدينين ، يستهزؤون بما آلت إليه أحوال الجماعات
الإسلامية السياسية في بعض البلاد ، وكأن القرآن الكريم ليس كتابا لجميع المسلمين ،
بل كتاب فئة منهم ، وكأن هذا المقتبِس يوجه خطابه للناس ويقول : هذا القرآن الذي
تتلونه وتقدسونه يمكننا أن نصنع مثله ليدل على عوراتكم . فيكتب مثلا ( وسيق الذين
تأخونوا إلى جهنم زمرا )، ولا يدري المسكين أن كتاب الله تعالى في المقام السامي
الذي لا يمسه فيه إلا المطهرون ، أما غير المطهرين في أديانهم وأخلاقهم ؛ فإنما
يكشفون عن سواد قلوبهم ، وضآلة عقولهم ، ويخسرون دنياهم قبل آخرتهم ، بمثل هذه
اللغة الاستهزائية ، والتألي على الله ، وتحريف معنى كتابه ، بل التحريف البين
للفظه المصون .
ثالثا :
ننقل هنا أقوال العلماء الذين حرموا مثل هذا الاقتباس إذا كان في سياق السخرية
والامتهان :
يقول السيوطي رحمه الله :
" من الاقتباس المردود تضمين آية في معنى هزل ، ونعوذ بالله من ذلك ، كقوله :
أوحى إلى عشاقه طرفه *** هيهات هيهات لما توعدون
وردفه ينطق من خلفه *** لمثل ذا فليعمل العاملون " انتهى من " الإتقان في علوم
القرآن " (1/387) نقله السيوطي عن بعض العلماء ثم قال : " هذا التقسيم حسن جدا وبه
أقول ".
ويقول أيضا رحمه الله :
" لا أعلم بين المسلمين خلافا في جوازه في النثر ، في غير المجون والخلاعة وهزل
الفساق وشربة الخمر واللاطة ونحو ذلك " انتهى من " تنوير الحوالك شرح موطأ مالك "
(1/312) .
وقال ابن عقيل الحنبلي رحمه الله :
" تضمين [يعني القرآن] كلام فاسد : فلا يجوز " .
انتهى نقلا عن ابن مفلح في " الآداب الشرعية " (2/289) .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن أمثلة من الاقتباس – منها عن قول أحدهم ( اليوم
رأينا نون وما يعلمون ) – فأجاب بقوله :
" أما من قال هذا على سبيل الاستهزاء والسخرية فإنه على خطر عظيم ، وقد يقال إنه
خرج من الإسلام ؛ لأن القرآن لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يتخذ هزواً ، وكذلك
الأحكام الشرعية كما قال الله تبارك وتعالى : ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ
تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ
اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ
لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ
وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ
كَانُوا مُجْرِمِينَ )التوبة/64-66 .
ولهذا قال العلماء رحمهم الله : من قال كلمة الكفر ، ولو مازحاً : فإنه يكفر ، ويجب
عليه أن يتوب ، وأن يعتقد أنه تاب من الردة ، فيجدد إسلامه ، فآيات الله عز وجل
ورسوله أعظم من أن تتخذ هزواً أو مزحاً .
أما من استشهد بآية على واقعة جرت وحدثت فهذا لا بأس به ، فإن رسول الله صلى الله
عليه وسلم استشهد بالآيات على الوقائع ، فاستشهد بقوله تعالى : ( إِنَّمَا
أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ) التغابن/15 .
حينما جاء الحسن والحسين يتعثران في أثوابهما، فنزل من المنبر صلى الله عليه وسلم
وقال : ( إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَة )التغابن/15، فالاستشهاد
بالآيات على الوقائع لا بأس به ، وأما أن تنزّل الآيات على ما لم يرد الله بها ،
ولا سيما إن قارن ذلك سخرية واستهزاء ، فالأمر خطير جداً " انتهى من " لقاء الباب
المفتوح " (60/ 13، بترقيم الشاملة آليا) .
ومن أراد التوسع يمكنه الرجوع لكتاب " الاقتباس أنواعه وأحكامه " للدكتور عبد
المحسن بن عبد العزيز العسكر .
والله أعلم .