الإجابة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد اختلف أهل العلم في كون رسم المصحف توقيفيا أو اجتهاديا , ثم اختلف القائلون بالاجتهاد : هل يجب اتباعه أم تسوغ مخالفته ؟ وقد استفاضت كتب علوم القرآن بذكر هذا الخلاف وأدلته, وكذلك عرض لهذه المسألة كثير من المعاصرين , منهم الدكتور محمد شرعي في رسالته العلمية جمع القرآن حيث قال : اختلف العلماء هل رسم المصاحف توقيفي من النبي صلى الله عليه وسلم , أم اجتهادي ؟ فأما الذين ذهبوا إلى أن الرسم توقيفي, فلم يجيزوا مخالفته , وأما القائلون بأنه اجتهاد واصطلاح من الصحابة , فاختلفوا , فمنهم من أوجب اتباع اصطلاحهم , ومنهم من جوز مخالفته , وجوز كتابة القرآن على غيره , ومنهم من أوجب كتابة المصاحف على الرسم القياسي منعا للبس , فتلخص أن العلماء في الرسم العثماني على مذهبين : مذهب يوجب اتباعه سواء من قال بالتوقيف ومن قال بأنه اصطلاح واجب الاتباع , ومذهب يرى جواز رسم المصاحف على غير الرسم العثماني , وبعضهم يوجب ذلك. اهـ.
وقد أعد مجلس هيئة كبار العلماء بحثا مفصلا عن مسألة كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء, وإن خالف ذلك الرسم العثماني.
جاء في آخره : وخلاصة القول : أن لكل من قال بجواز كتابة المصحف -القرآن- على مقتضى قواعد الإملاء والمنع من ذلك وحرمته وجهة نظر, غير أن مبررات الجواز فيها مآخذ ومناقشات تقدم بيانها , وقد لا تنهض معها لدعم القول بالجواز , ومع ذلك قد عارضها ما تقدم ذكره من الموانع , وجريا على القاعدة المعروفة من تقديم الحظر على الإباحة , وترجيح جانب درء المفاسد على جلب المصالح عند التعادل أو رجحان جانب المفسدة قد يقال : إن البقاء على ما كان عليه المصحف من الرسم العثماني أولى وأحوط على الأقل , وعلى كل حال فالمسألة محل نظر واجتهاد والخير في اتباع ما كان عليه الصحابة وأئمة السلف رضي الله عنهم. اهـ.
وقد ناقش مجمع الفقه الإسلامي هذا الموضوع واستعرض قرار هيئة كبار العلماء الصادر في شأنه, مما جاء فيه من ذكر الأسباب المقتضية بقاء كتابة المصحف بالرسم العثماني فقرر بالإجماع : تأييد ما جاء في قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية من عدم جواز تغيير رسم المصحف العثماني, ووجوب بقاء رسم المصحف العثماني على ما هو عليه ليكون حجة خالدة على عدم تسرب أي تغيير أو تحريف في النص القرآني , واتباعا لما كان عليه الصحابة أئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين, أما الحاجة إلى تعليم القرآن وتسهيل قراءته على الناشئة التي اعتادت الرسم الإملائي الدارج , فإنها تتحقق عن طريق تلقين المعلمين ؛ إذ لا يستغني تعليم القرآن في جميع الأحوال عن معلم , فهو يتولى تعليم الناشئين قراءة الكلمات التي يختلف رسمها في قواعد الإملاء الدارجة, ولا سيما إذا لوحظ أن تلك الكلمات عددها قليل , وتكرار ورودها في القرآن كثير , ككلمة : الصلوة والسموات ونحوهما , فمتى تعلم الناشئ الكلمة بالرسم العثماني , سهل عليه قراءتها كلما تكررت والمصحف , كما يجري مثل ذلك تماما في رسم كلمة هذا وذلك في قواعد الإملاء الدارجة أيضا. اهـ.
وقد نقل الشيخ صالح علي العود في رسالته تحريم كتابة القرآن الكريم بحروف غير عربية أعجمية أو لاتينية تأييد كثير من لجان الفتوى الرسمية في كثير من الدول العربية لهذا القرار المعجمي .
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة : قد أجمع المسلمون على وجوب كتابة المصحف بالرسم العثماني , وأنه لا تجوز مخالفته إلى غيره من أنواع الرسم؛ ولهذا اعتنى العلماء بقواعد الرسم وضوابطه في مباحث من كتب علوم القرآن مثل : الإتقان للسيوطي رحمه الله وفي كتب مفردة للرسم مثل : إيقاظ الأعلام بوجوب اتباع رسم مصحف الخليفة عثمان الإمام للشيخ محمد الخضر المالكي رحمه الله تعالى. اهـ.
وقال الشيخ محمد عبدالرحمن الخليجي وكيل مشيخة مقارئ الإسكندرية في كتابه حل المشكلات وتوضيح التحريرات في القراءات : رسم المصاحف العثمانية التي كتبها جمع من الصحابة في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه كما قدمناه في تاريخ القرآن بإقرار مئات الألوف من الصحابة توقيفي, يجب اتباعه في الوقف والابتداء , وصلا وفصلا, وإثباتا وحذفا , كما يجب ابقاؤه على كتابته الأولى , ولا يجوز تغييره بإجماع أئمة الدين. اهـ.
وقال الدكتور عبد القيوم السندي في جمع القرآن الكريم في عهد الخلفاء الراشدين : مما مر بنا من أدلة مذهب الجمهور تظهر قوة قولهم وترجيحه , ولكن يجب علينا أن نفرق في هذا المقام بين كون الرسم توقيفا , وبين وجوب الالتزام بالرسم العثماني , فالأدلة التي ذكرت في قول الجمهور لا يصرح شيء منها بكون الرسم توقيفا , لعدم وجود دليل صريح من الكتاب أو السنة على ذلك . أما وجوب الالتزام بالرسم العثماني فنعم وأقوى دليل عليه هو إجماع الصحابة أولا ثم إجماع الأمة الإسلامية منذ العصور المتقدمة . كما أنه ينبغي أن يفرق هنا بين الالتزام بالرسم العثماني لكتابة المصاحف الأمهات , وبين كتابة الآيات القرآنية في غير المصاحف فبالنسبة لكتابة المصاحف الأمهات : فأرجح في ذلك قول الجمهور , أما بالنسبة لكتابة الآيات القرآنية المفرقة في غير المصاحف كالاستشهاد بآية أو بجزء منها في مؤلف أو في رسالة علمية أو في الأجزاء المفرقة التي تطبع لتعليم الناشئة فينبغي فيها الالتزام بالرسم العثماني فيها . وهو الأحوط للخروج عن الخلاف، ولكن لم يتضح لي وجوب الالتزام بالرسم العثماني فيها. اهـ.
وبهذه النقول يتضح للسائل بجلاء مسألة رسم القرآن وهل هو توقيفي أم اجتهادي. وأما استشكاله فهو من أدلة من ذهب إلى أن الرسم اجتهادي وفي هذا السؤال يقول الشيخ محمد طاهر الكردي في تاريخ القرآن الكريم : والذي يظهر لنا والله تعالى أعلم أن رسم المصحف العثماني غير توقيفي ونستدل على قولنا هذا بخمسة أمور :
الأمر الأول : أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كونه أميا لا يكتب ولا يقرأ كتابا , كما قال تعالى : وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ {العنكبوت:48}. فكيف يملي عليه الصلاة والسلام زيد بن ثابت على حسب قواعد الكتابة والإملاء من نحو الزيادة والنقص والوصل والفصل ؟ ! فهل كان يقول صلى الله عليه وسلم لكاتب الوحي : اكتب كلمة إبراهيم في سورة البقرة كلها بغير ياء واكتبها في بقية القرآن بالياء, واكتب كلمة بأييد بياءين . واكتب كلمة وجائ يومئذ بجهنم بزيادة ألف بعد الجيم. اهـ . وذكر لذلك أمثلة كثيرة , ثم ذكر بقية الأمور الخمسة , مع ضرورة الانتباه إلى أن الشيخ يرى وجوب اتباع الرسم العثماني , حيث يقول : حكم اتباع رسم المصحف العثماني الوجوب باتفاق الأئمة قاطبة , وإن لم ندرك حكمة كتابته على هذه الصورة من الرسم المخالف لقواعد الكتابة. اهـ .
وأخيرا ننبه السائل الكريم على أن سؤاله عن كتابة الميم مذيلة أو غير مذيلة في لفظة ثم في قوله تعالى :هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا {غافر:67}. لا يتعلق أصلا بمسألة رسم المصحف , فإن أهل العلم حصروا ما يخالف فيه الرسم العثماني للرسم القياسي في الحذف , والزيادة , والهمز , والبدل , والفصل , والوصل , كما أفاد الدكتور شعبان محمد إسماعيل في كتابه رسم المصحف وضبطه بين التوقيف والاصطلاح الحديث . ولذلك ترى اختلافا بين المصاحف المطبوعة في رسم الميم بذيل أو بدون ذيل , مع اتفاقها في الرسم العثماني , فمثل هذه الخلافات إنما ترجع إلى الخطاط الذي كتب المصحب وذوقه ونوع الخط الذي يستخدمه.
والله أعلم.