الإجابة
فصل:
إذا ظهرت هذه المقدمات في اسم المؤمن والكافر، والفاسق المِلِّى وفي
حكم الوعد والوعيد، والفرق بين المطلق والمعين، وما وقع في ذلك من
الاضطراب، فـ [مسألة تكفير أهل البدع والأهواء] متفرعة على هذا
الأصل.
ونحن نبدأ بمذهب أئمة السنة فيها قبل التنبيه على الحجة.
فنقول:
المشهور من مذهب الإمام أحمد، وعامة أئمة السنة، تكفير الجهمية، وهم
المعطلة لصفات الرحمن؛ فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاء به الرسل من
الكتاب، وحقيقة قوله جحود الصانع، ففيه جحود الرب، وجحود ما أخبر به
عن نفسه على لسان رسله، ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكى
كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكى كلام الجهمية، وقال غير
واحد من الأئمة: إنهم أكفر من اليهود والنصارى؛ يعنون من هذه الجهة؛
ولهذا كفروا من يقول: إن القرآن مخلوق، وإن الله لا يرى في الآخرة،
وإن الله ليس على العرش، وإن الله ليس له علم، ولا قدرة ولا رحمة، ولا
غضب، ونحو ذلك من صفاته.
وأما المرجئة، فلا تختلف نصوصه أنه لا يكفرهم؛ فإن بدعتهم من جنس
اختلاف الفقهاء في الفروع، وكثير من كلامهم يعود النزاع فيه إلى نزاع
في الألفاظ والأسماء؛ ولهذا يسمى الكلام في مسائلهم [باب الأسماء]
وهذا من نزاع الفقهاء، لكن يتعلق بأصل الدين، فكان المنازع فيه
مبتدعاً.
وكذلك الشيعة المفضلون لعليٍّ علَى أبى بكر لا يختلف قوله أنهم لا
يكفرون؛ فإن ذلك قول طائفة من الفقهاء أيضاً، وإن كانوا يبدعون.
وأما القدرية المقرون بالعلم والروافض الذين ليسوا من الغالية،
والجهمية، والخوارج فيذكر عنه في تكفيرهم روايتان، هذا حقيقة قوله
المطلق مع أن الغالب عليه التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم،
والخوارج، مع قوله: ما أعلم قوماً شراً ن الخوارج.
ثم طائفة من أصحابه يحكون عنه في تكفير أهل البدع مطلقاً روايتين،
حتى يجعلوا المرجئة داخلين في ذلك، وليس الأمر كذلك، وعنه في تكفير من
لا يكفر روايتان، أصحهما: لا يكفر، وربما جعل بعضهم الخلاف في تكفير
من لا يكفر مطلقاً، وهو خطأ محض، والجهمية عند كثير من السلف، مثل عبد
الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وطائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم
ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة، التى افترقت عليها هذه الأمة، بل
أصول هذه عند هؤلاء: هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية وهذ
المأثور عن أحمد، وهو المأثور عن عامة أئمة السنة، والحديث أنهم كانوا
يقولون: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا
يرى في الآخرة فهو كافر، ونحو ذلك.
ثم حكى أبو نصر السجزى عنهم في هذا قولين: أحدهما: أنه كفر
ينقل عن الملة.
قال: وهو قول الأكثرين، والثانى: أنه كفر لا ينقل؛ ولذلك قال
الخطابى: إن هذا قالوه علي سبيل التغليظ، وكذلك تنازع المتأخرون من
أصحابنا في تخليد المكفر من هؤلاء، فأطلق أكثرهم عليه التخليد، كما
نقل ذلك عن طائفة من متقدمى علماء الحديث، كأبى حاتم، وأبى زُرْعَة
وغيرهم، وامتنع بعضهم من القول بالتخليد.
وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة؛ فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام
الكفر بهم، ثم أنهم يرون من الأعيان، الذين قالوا تلك المقالات من قام
به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافراً، فيتعارض عندهم الدليلان.
وحقيقة الأمر: أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما
أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع، كلما رأوهم قالوا: من
قال كذا فهو كافر، اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله، ولم
يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق لمعين، وأن تكفير
المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع،
يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم
يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه.
فإن الإمام أحمد مثلا قد باشر [الجهمية] الذين دعوه إلى خلق
القرآن، ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا الؤمنين
والمؤمنات الذين لم يوافقوهم علي التجهم بالضرب والحبس، والقتل والعزل
على الولايات، وقطع الأرزاق، ورد الشهادة، وترك تخليصهم من أيدى
العدو، بحيث كان كثير من أولى الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة
والقضاة وغيرهم، يكفرون كل من لم يكن جهمياً موافقاً لهم على نفي
الصفات، مثل القول بخلق القرآن، يحكمون فيه بحكمهم في الكافر، فلا
يولونه ولاية، ولا يفتكونه من عدو، ولا يعطونه شيئاً من بيت المال،
ولا يقبلون له شهادة، ولا فتيا ولا رواية.
ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة، والافتكاك من الأسر وغير
ذلك.
فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان، ومن لم يقر به لم يحكموا
له بحكم أهل الإيمان ومن كان داعياً إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه
وحبسوه.
ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم؛ فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من
قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها،
والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب.
ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم،
وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذى هو كفر، ولو
كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار
لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره
من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية، الذين كانوا
يقولون: القرآن مخلوق، وإن الله لايرى في الآخرة.
وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفّر به قوماً معينين، فأما أن
يذكر عنه في المسألة روايتان، ففيه نظر أو يحمل الأمر على التفصيل.
فيقال: من كفر بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير،
وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق
قوله بالتكفير على سبيل العموم.
والدليل على هذا الأصل: الكتاب، والسنة، والإجماع، والاعتبار.
أما الكتاب، فقوله سبحانه وتعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا
أَخْطَأْتُم بِهِ} [الأحزاب: 5] وقوله تعالى:
{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن
نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}[البقرة: 286].
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن
الله تعالى قال لما
دعا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بهذا الدعاء.
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال ، إنه لم يقرأ بحرف منها إلا
أعطيه.
وإذا ثبت بالكتاب المفسر بالسنة أن الله قد غفر لهذه الأمة الخطأ
والنسيان، فهذا عام عموماً محفوظاً، وليس في الدلالة الشرعية ما يوجب
أن الله يعذب من هذه الأمة مخطئاً على خطئه، وإن عذب المخطئ من غير
هذه الأمة.
وأيضاً، فقد ثبت في الصحيح من حديث أبى هريرة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم، قال .
وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أصحاب
الحديث والأسانيد من حديث أبي سعيد، وحذيفة وعقبة بن عمرو، وغيرهم عن
النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة يعلم أهل الحديث أنها تفيدهم
العلم اليقيني، وإن لم يحصل ذلك لغيرهم ممن لم يشركهم في أسباب العلم،
فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة
ابن آدم، بعد ما أحرق وذرى، وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به
ذلك، وهذان أصلان عظيمان:
أحدهما: متعلق بالله تعالى وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير.
الثانى: متعلق باليوم الآخر وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت،
ويجزيه على أعماله، ومع هذا فلما كان مؤمناً بالله في الجملة، ومؤمناً
باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت، وقد عمل
عملا صالحاً وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه غفر الله له بما
كان منه من الإيمان بالله، واليوم الآخر والعمل الصالح.
وأيضاً، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية ، وفي رواية وفي رواية وهذا وأمثاله من النصوص المستفيضة عن النبي
صلى الله عليه وسلم، يدل أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان
والخير وإن كان قليلا،وأن الإيمان مما يتبعض ويتجزأ.
ومعلوم قطعاً أن كثيراً من هؤلاء المخطئين معهم مقدار ما من
الإيمان بالله ورسوله؛ إذ الكلام فيمن يكون كذلك.
وأيضاً، فإن السلف أخطأ كثير منهم في كثير من هذه المسائل، واتفقوا
على عدم التكفير بذلك، مثلما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع
نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة، وأنكر بعضهم رؤية محمد
ربه، ولبعضهم في الخلافة والتفضيل كلام معروف، وكذلك لبعضهم في قتال
بعض، ولعن بعض، وإطلاق تكفير بعض، أقوال معروفة.
وكان القاضي شُرَيْح ينكر قراءة من قرأ: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ}
[الصافات: 12]، ويقول: إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم
النَّخَعِي.
فقال: إنما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبد الله أفقه منه، فكان
يقول:{ بل عجبتَ} فهذا قد
أنكر قراءة ثابتة، وأنكر صفة دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة
على أنه إمام من الأئمة، وكذلك بعض السلف أنكر بعضهم حروف القرآن، مثل
إنكار بعضهم قوله: { أَفَلَمْ
يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ } [الرعد: 31]، وقال: إنما
هى: أولم يتبين الذين آمنوا، وإنكار الآخر قراءة قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ
إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]، وقال: إنما هى: ووصى
ربك.
وبعضهم كان حذف المعوذتين، وآخر يكتب سورة القنوت، وهذا خطأ معلوم
بالإجماع والنقل المتواتر، ومع هذا فلما لم يكن قد تواتر النقل عندهم
بذلك لم يكفروا، وإن كان يكفر بذلك من قامت عليه الحجة بالنقل
المتواتر.
وأيضاً، فإن الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحداً، إلا
بعد إبلاغ الرسالة، فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأساً، ومن بلغته جملة
دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة
الرسالية.
وذلك مثل قوله تعالى:{ لِئَلاَّ
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}
[النساء:165]، وقوله:{ يَا
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ
يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي}الآية [الأنعام: 130]،
وقوله :{نَعْمَلُ أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ
النَّذِيرُ} [فاطر: 37]، وقوله: { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ
رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ}
الآية [الزمر: 71]، وقوله:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وقوله:{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى
حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِنَا} [القصص:59]، وقوله:{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا
أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا
مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الملك: 8- 9]،
وقوله:{ وَلَوْ أَنَّا
أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا
أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن
نَّذِلَّ وَنَخْزَى} [طه:134]، وقوله: {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ
إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ } [القصص: 47]،ونحو هذا في القرآن في
مواضع متعددة.
فمن كان قد آمن بالله ورسوله، ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول، فلم
يؤمن به تفصيلا؛ إما أنه لم يسمعه، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق
بها، أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذى يعذر به فهذا قد جعل فيه
من الإيمان بالله وبرسوله ما يوجب أن يثيبه الله عليه، وما لم يؤمن به
فلم تقم عليه به الحجة التى يكفر مخالفها.
وأيضاً، فقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من الخطأ في الدين ما
لا يكفر مخالفة، بل ولا يفسق، بل ولا يأثم، مثل الخطأ في الفروع
العملية، وإن كان بعض المتكلمة والمتفقهة يعتقد أن المخطئ فيها آثم،
وبعض المتكلمة والمتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب، فهذان القولان
شاذان، ومع ذلك فلم يقل أحد بتكفير المجتهدين المتنازعين فيها، ومع
ذلك فبعض هذه المسائل قد ثبت خطأ المنازع فيها بالنصوص والإجماع
القديم، مثل استحلال بعض السلف والخلف لبعض أنواع الربا، واستحلال
آخرين لبعض أنواع الخمر، واستحلال آخرين للقتال في الفتنة.
وأهل السنة والجماعة متفقون على أن المعروفين بالخير، كالصحابة
المعروفين، وغيرهم من أهل الجمل وصِفِّين من الجانبين، لا يفسق أحد
منهم، فضلا عن أن يكفر، حتى عدى ذلك من عداه من الفقهاء إلى سائر أهل
البغى، فإنهم مع إيجابهم لقتالهم منعوا أن يحكم بفسقهم لأجل التأويل،
كما يقول هؤلاء الأئمة: إن شارب النبيذ المتنازع فيه متأولا لا يجلد
ولا يفسق، وقد قال تعالى:{ وَدَاوُودَ
وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ
غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا
سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}
[الأنبياء: 78- 79]،وقال تعالى:{ مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ
تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ
اللَّه}ِ[الحشر: 5].
وثبت في الصحاح من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال .
وثبت في الصحيح عن بُرَيْدة بن الحصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال وأدلة هذا الأصل
كثيرة لها موضع آخر.
وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن من بلغته رسالة النبي صلى الله
عليه وسلم فلم يؤمن به فهو كافر لا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد،
لظهور أدلة الرسالة، وإعلام النبوة؛ ولأن العذر بالخطأ حكم شرعى، فكما
أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، والواجبات تنقسم إلى أركان وواجبات
ليست أركاناً، فكذلك الخطأ ينقسم إلى مغفور وغير مغفور، والنصوص إنما
أوجبت رفع المؤاخذة بالخطأ لهذه الأمة، وإذا كان كذلك فالمخطئ في بعض
هذه المسائل، إما أن يلحق بالكفار، من المشركين وأهل الكتاب مع
مباينته لهم في عامة أصول الإيمان، وإما أن يلحق بالمخطئين في مسائل
الإيجاب والتحريم، مع أنها أيضاً من أصول الإيمان.
فإن الإيمان بوجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وتحريم المحرمات
الظاهرة المتواترة، هو من أعظم أصول الإيمان، وقواعد الدين، والجاحد
لها كافر بالاتفاق، مع أن المجتهد في بعضها ليس بكافر بالاتفاق مع
خطئه.
وإذا كان لابد من إلحاقه بأحد الصنفين، فمعلوم أن المخطئين من
المؤمنين بالله ورسوله، أشد شبهاً منه بالمشركين وأهل الكتاب، فوجب أن
يلحق بهم، وعلى هذا مضى عمل الأمة قديماً وحديثاً، في أن عامة
المخطئين من هؤلاء تجرى عليهم أحكام الإسلام التى تجرى على غيرهم، هذا
مع العلم بأن كثيراً من المبتدعة منافقون النفاق الأكبر، وأولئك كفار
في الدرك الأسفل من النار، فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية
ونحوهم زنادقة منافقون، بل أصل هذه البدع هو من المنافقين الزنادقة،
ممن يكون أصل زندقته عن الصابئين والمشركين، فهؤلاء كفار في الباطن،
ومن علم حاله فهو كافر في الظاهر أيضاً.
وأصل ضلال هؤلاء الإعراض عما جاء به الرسول من الكتاب والحكمة،
وابتغاء الهدى في خلاف ذلك، فمن كان هذا أصله فهو بعد بلاغ الرسالة
كافر لا ريب فيه، مثل من يرى أن الرسالة للعامة دون الخاصة، كما يقوله
قوم من المتفلسفة، وغالية المتكلمة والمتصوفة، أو يرى أنه رسول إلى
بعض الناس دون بعض، كما يقوله كثير من اليهود والنصارى.
فهذا الكلام يمهد أصلين عظيمين:
أحدهما: أن العلم والإيمان والهدى فيما جاء به الرسول، وأن خلاف ذلك
كفر على الإطلاق، فنفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله يرى في الآخرة،
أو أنه على العرش، أو أن القرآن كلامه، أو أنه كلم موسى، أو أنه اتخذ
إبراهيم خليلا كفر، وكذلك ما كان في معنى ذلك، وهذا معنى كلام أئمة
السنة وأهل الحديث.
والأصل الثانى: أن التكفير العام كالوعيد العام يجب القول
بإطلاقه وعمومه.
وأما الحكم على المعين بأنه كافر، أو مشهود له بالنار، فهذا يقف على
الدليل المعين؛ فإن الحكم يقف على ثبوت شروطه، وانتفاء موانعه.
ومما ينبغى أن يعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة
الحد على شخص في الدنيا، إما بقتل أو جلد أو غير ذلك، ويكون في الآخرة
غير معذب، مثل قتال البغاة والمتأولين، مع بقائهم على العدالة، ومثل
إقامه الحد على من تاب بعد القدرة عليه توبة صحيحة، فإنا نقيم الحد
عليه مع ذلك، كما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم على ماعز بن مالك
وعلى الغامدية ، مع قوله ، ومثل إقامة الحد على من شرب
النبيذ المتنازع فيه متأولا، مع العلم بأنه باق على العدالة.
بخلاف من لا تأويل له، فإنه لما شرب الخمر بعض الصحابة واعتقدوا
أنها تحل للخاصة تأول قوله: {لَيْسَ
عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا
طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ
ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ}
[المائدة: 93]، اتفق الصحابة مثل عمر بن الخطاب، وعلى بن أبي
طالب وغيرهما، على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على
الاستحلال قتلوا. وكذلك نعلم أن خلقاً لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم
كفار في الآخرة، مثل أهل الذمة المقرين بالجزية على كفرهم، ومثل
المنافقين المظهرين الإسلام، فإنهم تجرى عليهم أحكام الإسلام، وهم في
الآخرة كافرون، كما دل عليه القرآن في آيات متعددة، كقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ
الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً}الآية
[النساء: 145]، وقوله: {يَوْمَ
يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا
انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ
فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ
بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ
فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ
الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ
الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا}الآية [الحديد: 13 ـ 15].
وهذا لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة، التى هى دار
الثواب والعقاب، وأما الدنيا فإنما يشرع فيها من العقاب ما يدفع به
الظلم والعدوان، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ
عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]، وقال تعالى:
{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ
يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ} [الشورى: 42]، وهذا لأن المقصود بإرسال
الرسل، وإنزال الكتب، هو إقامة القسط، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ
وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ
بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحديد:
25] وإذا كان الأمر كذلك فعقوبة الدنيا غير مستلزمة لعقوبة الآخرة،
ولا بالعكس، ولهذا أكثر السلف يأمرون بقتل الداعى إلى البدعة، الذى
يضل الناس لأجل إفساده في الدين، سواء قالوا: هو كافر، أو ليس بكافر
وإذا عرف هذا، فتكفير [المعين] من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث
يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على
أحده الحجة الرسالية، التى يتبين بها أنهم مخالفون للرسل، وإن كانت
هذه المقالة لا ريب أنها كفر.
وهكذا الكلام في تكفير جميع [المعينين]، مع أن بعض هذه البدعة
أشد من بعض، وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض، فليس
لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة،
وتبين له المحَجَّة.
ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد
إقامة الحجة، وإزالة الشبهة وهذا الجواب لا يحتمل أكثر من هذا، والله
المسؤول أن يوفقنا وسائر إخواننا لما يحبه ويرضاه، والله سبحانه
أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - الجزء الثاني
عشر.