الإجابة
هذه الآية الكريمة ذكر العلماء أنها نزلت في أناس تخلفوا في مكة ، ولم يهاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كانت غزوة بدر أجبرهم الكفار على الخروج معهم، وحضروا القتال، فنزلت الآية الكريمة فيهم لما قتل من قتل منهم وهي قوله جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ المعنى ظالمو أنفسهم بالإقامة بين ظهراني المشركين وهم قادرون على الهجرة: قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ يعني قالت لهم الملائكة فيما كنتم قالوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ يعني في أرض مكة ، قالوا: قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً يعني قالت لهم الملائكة : ألم تكن أرض الله واسعة فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا الآية، فهم متوعدون بالنار؛ لأنهم أقاموا في أرض الكفار من دون عذر ، وكان الواجب عليهم أن يهاجروا إلى بلاد الإسلام، إلى المدينة المنورة ، فلمّا أُجبروا على الخروج يعني أكرهوا، صار ذلك ليس عذراً لهم وكان عملهم سبباً لهذا الإكراه، وسبباً لهذا الخروج فجاء فيهم هذا الوعيد، لكونهم عصوا الله بإقامتهم مع القدرة على الهجرة، ولم يكفروا لأنهم مكرهون، أخرجوا إلى ساحة القتال ولم يقاتلوا ولكن قُتلوا، قُتل من قُتل منهم، أما لو قاتلوا مختارين، راضين غير مكرهين لكانوا كفاراً؛ لأن من ظاهر الكفار وساعدهم يكون كافراً مثلهم، لكن هؤلاء لم يقاتلوا وإنما أكرهوا على الحضور، وتكثير السواد فقط فقُتلوا من غير أن يقاتلوا، وقال آخرون من أهل العلم إنهم كفروا بذلك؛ لأنهم أقاموا من غير عذر، ثم خرجوا معهم وفي إمكانهم التملص، والخروج من بين الكفرة في الطريق، أو حين التقاء الصفين، وفي إمكانهم أن يلقوا السلاح ولا يقاتلوا، وبكل حال فهم بين أمرين، من قاتل منهم وهو غير مكره فهو كافر، حكمه حكم الكفرة الذين قتلوا، وليس له عذر في أصل الإكراه؛ لأنه لما أكره باشر وقاتل، وأراد مساعدة الكفار فصار معهم وصار مثلهم، ودخل في قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن من ظاهر الكفار على المسلمين، وساعدهم بالسلاح أو بالمال ، فإنه يكون كافراً مثلهم، مرتداً عن الإسلام ، أما من أكره ولم يُقاتل ولم يرضَ بقتال أهل الإسلام ، ولم يوافق على ذلك ولكن أجبر وأكره بالقوة والربط والإكراه، حتى وصل إلى ساحة القتال، ولم يقاتل فهذا يكون عاصياً بأصل إقامته ومتوعداً على ذلك بالنار، لأنه أقام معهم من دون عذر، ولهذا ذكر ابن كثير رحمه الله وجماعة آخرون من أهل العلم، أن الإقامة بين أظهر الكفار وهو عاجز عن إظهار دينه، محرّمة بالإجماع، ليس للمسلم أن يقيم بين الكفار وهو يقدر على الهجرة، وهو لا يستطيع إظهار دينه بل هو مغلوب على أمره، فإنه يجب عليه أن يهاجر بإجماع المسلمين لهذه الآية الكريمة؛ لأن الله وصفهم بأنهم ظلموا أنفسهم بهذه الإقامة وتوعدهم بالنار، فدل ذلك على أنهم قد عصوا الله في هذه الإقامة. والهجرة لم تنقطع ما دام هناك دينان، الهجرة باقية وإنما الذي انقطع الهجرة من مكة ، لمّا فتحت، قال النبي فيها: لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا يعني من مكة لأنها صارت بلد إسلام، بعد ما فتحها الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، صارت بلد إسلام، فقال فيها صلى الله عليه وسلم: لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ يعني من مكة بعد فتحها، أما الهجرة في أصلها فهي باقية ولهذا جاء في حديث آخر: لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلاَ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّْمسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فكل بلد ظهر فيها الكفار، ولم يستطع المسلم فيها إظهار دينه، ولا إقامة دينه وهو يستطيع الخروج، فإنه يلزمه أن يهاجر، فإن أقام كان عاصياً بالإجماع، أمّا المستضعف من الرجال والنساء والولدان فقد عذرهم الله وهم الذين لا يستطيعون حيلة، لعدم النفقة أو لأنهم مقيدون مسجونون، أو لا يهتدون سبيلاً؛ لأنهم جهال بالطريق لا يعرفون الطريق، لو خرجوا هلكوا، لا يعرفون السبيل فهم معذورون، حتى يسهل الله لهم فرجاً ومخرجاً من بين أرض المشركين، والله المستعان .