الفتاوى

تفسير قوله تعالى : ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا )
إنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ( لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الْجَنَّةَ )، قَالُوا : وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ : ( لاَ ، وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِى اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ)، هل هذا الحديث معلق بقول الله عز وجل في سورة يونس : ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) ؟

الإجابة

الحمد لله

أولًا :

قوله تعالى :  قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ  ، يعني : " أَيْ: بِهَذَا الَّذِي جَاءَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ فَلْيَفْرَحُوا ، فَإِنَّهُ أَوْلَى مَا يَفْرَحُونَ بِهِ ، هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أَيْ: مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ الذَّاهِبَةِ لَا مَحَالَةَ " انتهى من "تفسير ابن كثير" (4/ 275).

ففضل الله تعالى ورحمته هو الهداية لدينه وشرعه ، وأخص ذلك هو القرآن المجيد والإيمان .

قال ابن القيم : " وَقَدْ دَارَتْ أَقْوَالُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ هِيَ الْإِسْلَامُ وَالسُّنَّةُ ، وَعَلَى حَسَبِ حَيَاةِ الْقَلْبِ يَكُونُ فَرَحُهُ بِهِمَا، وَكُلَّمَا كَانَ أَرْسَخَ فِيهِمَا ، كَانَ قَلْبُهُ أَشَدَّ فَرَحًا ، حَتَّى إِنَّ الْقَلْبَ لَيَرْقُصُ فَرَحَا إِذَا بَاشَرَ رَوحَ السُّنَّةِ ، أَحْزَنَ مَا يَكُونُ النَّاسُ، وَهُوَ مُمْتَلِئٌ أَمْنًا ، أَخْوَفَ مَا يَكُونُ النَّاسُ " انتهى من"اجتماع الجيوش" (2/ 38).

وفي "التفسير الوسيط - مجمع البحوث" : (4/ 106) : " والمعنى: قل يا محمد: أَيها الناس قد جاءَكم القرآن واعظًا لكم ، وشافيًا لصدوركم، وهاديًا لقلوبكم، ورحمة للمؤمنين منكم، وهذا كله بفضل الله - تعالى - وبرحمته، فبذلك وحده فليفرح الناس جميعًا، فإِنه خير وأَبقى مما يجمعون من متاع الدينا، فهو زاد الآخرة الذي ليس له فناء، أَمَّا الدنيا ومتاعها فإلى زوال وإلى هباءٍ "، انتهى .

وعلى هذا القول الظاهر في معنى الآية: فالفرح إنما يكون بالرحمة الحاصلة للمؤمنين في الدنيا، بالقرآن العظيم، وهدايتهم إلى دين الإسلام.

وأما الرحمة المذكورة في الحديث: فهي ما يرجوه المؤمنون من أرحم الراحمين يوم القيامة، أن يتغمدهم الله برحمته، ويسترهم بستره، ويدخلهم الجنة؛ لا تعويلا على قول أو عمل، أعظم من عفو الله ورحمته .

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:  إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنَ الجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ المُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ العَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ  رواه البخاري (6469)، ومسلم (2752).

وعَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  إِنَّ اللهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ رَحْمَةً، فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ رواه مسلم (2753).

وينظر جواب السؤال رقم : (201858)، ورقم : (20468) .

ثانيًا :

ذكر بعض العلماء أن رحمة الله المذكورة في الآية عامة، تشمل الدنيا والآخرة .

قال "ابن عطية" : " هذه آية خوطب بها جميع العالم ، و الموعظة : القرآن، لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف، ويزجر ويرقق، ويوعد ويعِد ، وهذه صفة الكتاب العزيز ، وقوله ( مِنْ رَبِّكُمْ ) يريد لم يختلقها محمد صلى الله عليه وسلم بل هي من عند الله ، وما فِي الصُّدُورِ يريد به الجهل والعتو عن النظر في آيات الله ونحو هذا مما يدفع الإيمان ، وجعله موعظة بحسب الناس أجمع ، وجعله هُدىً وَرَحْمَةٌ بحسب المؤمنين فقط ، وهذا تفسير صحيح المعنى إذا تؤمل بان وجهه .

وقوله سبحانه : ( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ ) ، الباء متعلقة بمحذوف استغني عن ذكره يدل عليه قوله: وَهُدىً وَرَحْمَةٌ ، قال بعض المتأولين وهو هلال بن يساف وقتادة والحسن وابن عباس: الفضل : الإسلام ، و الرحمة : القرآن ، وقال أبو سعيد الخدري: الفضل : القرآن ، و الرحمة أن جعلهم من أهله ، وقال زيد بن أسلم والضحاك الفضل : القرآن ، و الرحمة : الإسلام ، وقالت فرقة: الفضل : محمد صلى الله عليه وسلم ، و الرحمة : القرآن.

قال القاضي أبو محمد: ولا وجه عندي لشيء من هذا التخصيص إلا أن يستند منه شيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه ، أن الفضل هو هداية الله تعالى إلى دينه والتوفيق إلى اتباع الشرع ، و الرحمة هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على التشرع بالإسلام والإيمان به ، ومعنى الآية: قل يا محمد لجميع الناس ( بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ ) فليقع الفرح منكم ، لا بأمور الدنيا وما جمع من حطامها ، فالمؤمنون يقال لهم: فلتفرحوا ، وهم متلبسون بعلة الفرح وسببه ، ومحصلون لفضل الله ، منتظرون الرحمة ، والكافرون يقال لهم: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فلتفرحوا ، على معنى أن لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك " انتهى من "المحرر الوجيز" (3/ 126).

وعلى ذلك يكون المعنى : إن الدنيا وما فيها لا تستحق أن يفرح بها العاقلون، بل إنما يكون فرحهم الحقيقي : يوم القيامة ، يوم أن يتغمدهم الله برحمته التي يرجونها، ويؤملونها، ويدخلهم الجنة، دار السلام .

وينظر : "تفسير القاسمي" (3/ 220).

والله أعلم.

Icon