الإجابة
الحمد لله
أولًا :
قوله تعالى عن نبيه موسى : وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي طه/ 29 .
أي : " وأَنزلت عليك محبة مني ، إذ أَحببتك، وجعلت من يرونك يحبُّونك ، فأَحبك فرعون وأنزلك منه منزلة الولد ، وأَحبك أَهله وحاشيته ، وفعلْتُ ذلك لكي تربَّى وتنشأَ لديه ، وفي منزله في رعايتي وحفظي " انتهى من "التفسير الوسيط" (6/ 1022).
قال "السعدي" : " ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) فكل من رآه أحبه ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ) ولتتربى على نظري وفي حفظي وكلاءتي ، وأي نظر وكفالة أجلّ وأكمل ، من ولاية البر الرحيم ، القادر على إيصال مصالح عبده ، ودفع المضار عنه؟! فلا ينتقل من حالة إلى حالة ، إلا والله تعالى هو الذي دبّر ذلك لمصلحة موسى ، ومن حسن تدبيره ، أن موسى لما وقع في يد عدوه ، قلقت أمه قلقا شديدا ، وأصبح فؤادها فارغا ، وكادت تخبر به ، لولا أن الله ثبتها وربط على قلبها ، ففي هذه الحالة ، حرم الله على موسى المراضع ، فلا يقبل ثدي امرأة قط ، ليكون مآله إلى أمه فترضعه ، ويكون عندها ، مطمئنة ساكنة ، قريرة العين ، فجعلوا يعرضون عليه المراضع ، فلا يقبل ثديًا.
فجاءت أخت موسى ، فقالت لهم: ( هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ) ( فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ ) " انتهى من "التفسير" (504).
ثانيًا :
وهذه المقامات ليست خاصة بموسى عليه السلام ، من حيث أصلها، وإن كان لموسى عليه السلام، وأنبياء الله الكرام، من ذلك المقام، ما لا يشاركهم فيه أحد ، لاختصاص الله جل جلاله أنبياءه بالاصطفاء والتقريب، ورفع المكانة، وتفضيلهم على العالمين.
وقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا مريم/96
" قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: سيجعل لهم الرحمن ودا قال: حبا.
وقال مجاهد، عنه: سيجعل لهم الرحمن ودا قال: محبة في الناس في الدنيا.
وقال سعيد بن جبير، عنه: يحبهم ويحببهم، يعني: إلى خلقه المؤمنين. كما قال مجاهد أيضا، والضحاك وغيرهم.
وقال العوفي، عن ابن عباس أيضا: الود من المسلمين في الدنيا، والرزق الحسن، واللسان الصادق.
وقال قتادة: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا إي والله، في قلوب أهل الإيمان، ذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم.
وقال قتادة: وكان عثمان بن عفان، رضي الله عنه، يقول: ما من عبد يعمل خيرا، أو شرا، إلا كساه الله، عز وجل، رداء عمله." انتهى، من "تفسير ابن كثير" (5/269).
وروى الإمام "مسلم" في "صحيحه" (2637) : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ ، قَالَ : فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ : إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ : إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ ، قَالَ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ ، قَالَ : فَيُبْغِضُونَهُ ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ .
والطريق الموصل لهذه المحبة ، وتلك المعية ، موجود في القرآن المجيد ، وهو : العمل بما يحبه الله ، وترك ما يبغضه الله ، قال "ابن القيم" : " وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بِذِكْرِ مَنْ يُحِبُّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ .
وَذِكْرِ مَا يُحِبُّهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ .
كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) ، ( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ، ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) ، ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ) ، ( فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) .
وَقَوْلِهِ فِي ضِدِّ ذَلِكَ ( وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) ، ( وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) ، ( وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) ، ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ) .
وَكَمْ فِي السُّنَّةِ ( أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ كَذَا وَكَذَا ) ، وَ ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ كَذَا وَكَذَا ) ... " انتهى من "المدارج" (2/ 26 - 27) .
والله أعلم.