الفتاوى

عدد مرات إهباط آدم عليه السلام إلى الأرض .
ذكر بعض المفسرين أن إهباط أبينا آدم عليه السلام كان مرتين ، من الجنة للسماء الدنيا ثم للأرض، فهل ورد شيء في ذلك يعضده ؟ أم إن الأصل إهباط واحد؟

الإجابة

الحمد لله  

أولًا:

هذه المسألة لها نوع ارتباط بمسألة اختلاف العلماء في الجنة التي أُهبط منها آدم عليه السلام، أهي جنة الخلد التي في السماء، أم جنة في الأرض .

وهي مسألة "خلافية بين العلماء: فمنهم من قال: هي جنة الخلد التي في السماء، وأُهبط منها آدم عليه السلام. ومنهم من قال: هي جنة في الأرض. ومنهم من توقف في هذه المسألة، فلم يرجح أحد القولين على الآخر.

وقد ذكر الخلاف في هذه المسألة الحافظ ابن كثير رحمه الله، وأطال النفس في ذلك؛ ذاكراً أقوال العلماء .

ومما قاله رحمه الله: "الجمهور على أنها هي التي في السماء، وهي جنة المأوى لظاهر الآيات والأحاديث.

وقال آخرون: بل الجنة التي أسكنها آدم لم تكن جنة الخلد؛ لأنه كلّف فيها أن لا يأكل من تلك الشجرة، ولأنه نام فيها، وأخرج منها، ودخل عليه إبليس فيها. وهذا مما ينافي أن تكون جنة المأوى.

وهذا القول محكي عن أبيّ بن كعب، وعبد الله بن عباس، ووهب بن منبه، وسفيان بن عيينة، واختاره ابن قتيبة في المعارف، والقاضي منذر بن سعيد البلوطي في تفسيره، وأفرد له مصنّفاً على حدة، وحكاه عن أبي حنيفة الإمام وأصحابه رحمهم الله، ونقله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ابن خطيب الريّ في تفسيره عن أبي القاسم البلخي وأبي مسلم الأصبهاني، ونقله القرطبي في تفسيره عن المعتزلة والقدرية.

وهذا القول هو نصّ التوراة التي بأيدي أهل الكتاب.

وممن حكى الخلاف في هذه المسألة: أبو محمد بن حزم في الملل والنحل، وأبو محمد بن عطية في تفسيره، وأبو عيسى الرماني في تفسيره، وحكى عن الجمهور الأول، وأبو القاسم الراغب، والقاضي الماوردي في تفسيره؛ فقال: واختلف في الجنة التي أُسكنها يعني آدم وحواء على قولين: أحدهما: أنها جنة الخلد، والثاني: جنة أعدها الله لهما، وجعلها دار ابتلاء، وليست جنة الخلد التي جعلها دار جزاء.

ومَنْ قال بهذا، اختلفوا على قولين؛ أحدهما: أنها في السماء؛ لأنّه أهبطهما منها. وهذا قول الحسن.

والثاني: أنها في الأرض؛ لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار. وهكذا قول ابن جبير، وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم. والله أعلم بالصواب من ذلك . هذا كلامه.

فقد تضمّن كلامه حكاية أقوال ثلاثة، وأشعر كلامه أنه متوقف في المسألة.

ولقد حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره في هذه المسالة أربعة أقوال؛ هذه الثلاثة التي أوردها الماوردي، ورابعها التوقف. وحكى القول بأنها في السماء، وليست جنة المأوى عن أبي علي الجبائي.....

قالوا: وليس هذا القول مفرعاً على قول من ينكر وجود الجنة والنار اليوم، ولا تلازم بينهما. فكلّ من حكي عنه هذا القول من السلف وأكثر الخلف ممن يُثبت وجود الجنة والنار اليوم كما دلّت عليه الآيات والأحاديث الصحاح". انظر: "البداية والنهاية" (1/175) وما بعدها .

ثانيًا:

استند من قال بأن الإهباط حصل مرتين بقوله تعالى:  قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا البقرة/38، لأنه قال قبلها:  فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ  البقرة/36.

قال الواحدي: "وقوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا الآية. إعادة الأمر بالهبوط يحتمل وجهين، أحدهما: أنه أراد بالأول هبوطاً من الجنة إلى السماء. وبالثاني هبوطًا من السماء إلى الأرض، والثاني: أنه كرر للتأكيد" انتهى من  "البسيط"(2/ 410).

وقال ابن القيم: " والظاهر أن هذا الإهباط الثاني غير الأول، وهو إهباط من السماء إلى الأرض، والأول إهباط من الجنة، وحينئذ فتكون الجنة التي أهبط منها أولًا : فوق السماء ، جنة الخلد " انتهى من "حادي الأرواح"(28).

والخلاصة في المسألة ما ذكره الحافظ ابن كثير: " وأما تكريره الإهباط في سورة البقرة في قوله: وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين - فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم - قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون - والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [البقرة: 36 - 39]

[البقرة: 36 39] . فقال بعض المفسرين: المراد بالإهباط الأول الهبوط من الجنة إلى السماء الدنيا، وبالثاني من السماء الدنيا إلى الأرض.

وهذا ضعيف، لقوله في الأول: وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [البقرة: 36] ؛ فدل على أنهم أُهبطوا إلى الأرض بالإهباط الأول، والله أعلم.

والصحيح أنه كرره لفظا، وإن كان واحدا، وناط مع كل مرة حكما ; فناط بالأول: عداوتهم فيما بينهم، وبالثاني: الاشتراط عليهم أن من تبع هداه الذي ينزله عليهم بعد ذلك هو السعيد، ومن خالفه فهو الشقي .

وهذا الأسلوب في الكلام له نظائر في القرآن الحكيم" انتهى من "البداية والنهاية"(1/ 185 - 186).

والله أعلم 

Icon