الإجابة
الحمد لله
أولًا:
قال الله تعالى : إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا الأحزاب/35 .
قال الطبري رحمه الله تعالى : " يقول تعالى ذكره: إن المتذللين لله بالطاعة والمتذللات، والمصدقين والمصدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أتاهم به من عند الله، والقانتين والقانتات لله، والمطيعين لله والمطيعات له فيما أمرهم ونهاهم، والصادقين لله فيما عاهدوه عليه والصادقات فيه، والصابرين لله في البأساء والضراء على الثبات على دينه، وحين البأس ، والصابرات، والخاشعة قلوبهم لله ، وجلا منه ومن عقابه ، والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، وهم المؤدون حقوق الله من أموالهم والمؤديات، والصائمين شهر رمضان الذي فرض الله صومه عليهم والصائمات، والحافظين فروجهم إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، والحافظات ذلك إلا على أزواجهن إن كن حرائر، أو من ملكهن إن كن إماء، والذاكرين الله بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم ، والذاكرات كذلك أعد الله لهم مغفرة لذنوبهم، وأجرا عظيما: يعني ثوابًا في الآخرة على ذلك من أعمالهم ، عظيما؛ وذلك الجنة " انتهى من " تفسير الطبري "(19/ 109).
وفي سبب نزول هذه الآيات : روى مجاهد قال: قالت أم سلمة: يغزو الرجال ولا نغزو، (وإنما) لنا نصف الميراث، فنزلت: ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ... إلى آخر الآية، ونزلت: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ... إلى آخر الآية.
رواه سعيد بن منصور: (624)، وأحمد: (26575)، ولفظه: عن أم سلمة، قالت: " قلت: يا رسول الله ما لنا لا نُذكَر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت: فلم يَرُعْني منه يوما ، إلا ونداؤه على المنبر: يا أيها الناس ، قالت: وأنا أسرح رأسي، فلففت شعري، ثم دنوت من الباب، فجعلت سمعي عند الجريد، فسمعته يقول: إن الله عز وجل يقول: ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) [الأحزاب: 35] " هذه الآية. قال عفان: (أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) (3) [الأحزاب: 35] .
ورواه الترمذي: (3211) أيضا .
ثانيا:
لو تأملنا في هذه الصفات المذكورة لوجدناها تشمل الدين كله، يقول السعدي: " لما ذكر تعالى ثواب زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، وعقابهن ، لو قدر عدم الامتثال ، وأنه ليس مثلهن أحد من النساء ؛ ذكر بقية النساء غيرهن.
ولما كان حكمهن والرجال واحدًا، جعل الحكم مشتركًا، فقال: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وهذا في الشرائع الظاهرة، إذا كانوا قائمين بها. وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وهذا في الأمور الباطنة، من عقائد القلب وأعماله.
وَالْقَانِتِينَ أي: المطيعين لله ولرسوله وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ في مقالهم وفعالهم وَالصَّادِقَاتِوَالصَّابِرِينَ على الشدائد والمصائب وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ في جميع أحوالهم، خصوصًا في عباداتهم، خصوصًا في صلواتهم، وَالْخَاشِعَاتِوَالْمُتَصَدِّقِينَ فرضًا ونفلا وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ شمل ذلك، الفرض والنفل. وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ عن الزنا ومقدماته، وَالْحَافِظَاتِوَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ [كَثِيرًا أي:] (3) في أكثر الأوقات، خصوصًا أوقات الأوراد المقيدة، كالصباح والمساء، وأدبار الصلوات المكتوبات وَالذَّاكِرَاتِ
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ أي: لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة، والمناقب الجليلة، التي هي، ما بين اعتقادات، وأعمال قلوب، وأعمال جوارح، وأقوال لسان، ونفع متعد وقاصر، وما بين أفعال الخير، وترك الشر، الذي من قام بهن، فقد قام بالدين كله، ظاهره وباطنه، بالإسلام والإيمان والإحسان.
فجازاهم على عملهم " بِالْمَغْفِرَةِ " لذنوبهم، لأن الحسنات يذهبن السيئات. وَأَجْرًا عَظِيمًا لا يقدر قدره، إلا الذي أعطاه، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله أن يجعلنا منهم " انتهى من "تفسير السعدي" (664).
ويقول ابن عاشور: " فالمقصود من أصحاب هذه الأوصاف المذكورة النساء، وأما ذكر الرجال فللإشارة إلى أن الصنفين في هذه الشرائع سواء ، ليعلموا أن الشريعة لا تختص بالرجال ، لا كما كان معظم شريعة التوراة خاصا بالرجال ، إلا الأحكام التي لا تتصور في غير النساء، فشريعة الإسلام بعكس ذلك ؛ الأصل في شرائعها أن تعم الرجال والنساء ، إلا ما نص على تخصيصه بأحد الصنفين .
ولعل بهذه الآية وأمثالها تقرر أصل التسوية ، فأغنى عن التنبيه عليه في معظم أقوال القرآن والسنة .
ولعل هذا هو وجه تعداد الصفات المذكورة في هذه الآية ، لئلا يتوهم التسوية في خصوص صفة واحدة.
وسلك مسلك الإطناب في تعداد الأوصاف ، لأن المقام لزيادة البيان ، لاختلاف أفهام الناس في ذلك .
على أن في هذا التعداد إيماء إلى أصول التشريع كما سنبينه في آخر تفسير هذه الآية " انتهى من "التحرير والتنوير "(22/ 20).
ويقول: " وقد اشتملت هذه الخصال العشر على جوامع فصول الشريعة كلها.
فالإسلام: يجمع قواعد الدين الخمس المفروضة ، التي هي أعمال، والإيمان يجمع الاعتقادات القلبية المفروضة ، وهو شرط أعمال الإسلام كلها .
والقنوت: يجمع الطاعات كلها ، مفروضها ومسنونها، وترك المنهيات ، والإقلاع عنها ممن هو مرتكبها، وهو معنى التوبة، فالقنوت هو تمام الطاعة، فهو مساو للتقوى.
فهذه جوامع شرائع المكلفين في أنفسهم.
والصدق: يجمع كل عمل هو من موافقة القول والفعل للواقع ، في القضاء والشهادة والعقود والالتزامات ، وفي المعاملات بالوفاء بها وترك الخيانة، ومطابقة الظاهر للباطن في المراتب كلها. ومن الصدق : صدق الأفعال.
والصبر: جامع لما يختص بتحمل المشاق من الأعمال ، كالجهاد والحسبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومناصحة المسلمين وتحمل الأذى في الله، وهو خلق عظيم ، هو مفتاح أبواب محامد الأخلاق والآداب ، والإنصاف من النفس.
والخشوع: الإخلاص بالقلب والظاهر، وهو الانقياد وتجنب المعاصي، ويدخل فيه الإحسان .
ويدخل تحت ذلك : جميع القرب النوافل ، فإنها من آثار الخشوع، ويدخل فيه التوبة مما اقترفه المرء من الكبائر ؛ إذ لا يتحقق الخشوع بدونها.
والتصدق: يحتوي جميع أنواع الصدقات والعطيات ، وبذل المعروف والإرفاق.
والصوم: عبادة عظيمة، فلذلك خصصت بالذكر ، مع أن الفرض منه مشمول للإسلام في قوله: إن المسلمين والمسلمات ، وبقي صوم النافلة، فالتصريح بذكر الصوم تنويه به.
وحفظ الفرو أريد به حفظها عما ورد الشرع بحفظها عنه، وقد اندرج في هذا جميع أحكام النكاح ، وما يتفرع عنها ، وما هو وسيلة لها.
و ذكر الله ، كما علمت ، له محملان:
أحدهما: ذكره اللساني ، فيدخل فيه قراءة القرآن وطلب العلم ودراسته . ويشمل ما يذكر عقب الصلوات ونحو ذلك من الأذكار.
والمحمل الثاني: الذكر القلبي ، وهو ذكر الله عند أمره ونهيه .... فدخل فيه التوبة .
ودخل فيها الارتداع عن المظالم كلها ، من القتل وأخذ أموال الناس والحرابة والإضرار بالناس في المعاملات.
ومما يوضح شموله لهذه الشرائع كلها تقييده بـ ( كثيرا ) ؛ لأن المرء إذا ذكر الله كثيرًا ، فقد استغرق ذكره على المحملين جميع ما يذكر الله عنده.
ويراعى في الاتصاف بهذه الصفات : أن تكون جارية على ما حدده الشرع في تفاصيلها " .
انتهى من "التحرير والتنوير"(22/ 23 - 24).
والله أعلم .