الفتاوى

تفسير قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب والحكمة) ، وهل الحكمة هنا: هي سنة الرسول ؟
كنت أود أن أسأل عن الخاطرة تأتى لأحدنا عن آية من آيات القرآن ، فيود أن يخبر بها ، فيخاف أن يقع تحت من يقول في القرآن برأيه ، مثال لذلك آية سورة ال عمران  وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ آل عمران/48 فكل التفاسير تقول : بأن الكتاب هنا هو الكتابة ، والحكمة هى السنة عن الرسول نفسه وهو عيسى بن مريم ، مع أن كل مواضع ارتباط كلمة الكتاب والحكمة تعنى القرآن والسنة أى سنة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو أننا سلمنا برفع سيدنا عيسى بن مريم إلى الله ، وأنه ينزل آخر الزمان ، ويصلى خلف إمام المسلمين ، فهل له ذلك دون أن يعلمه الله القرآن الكريم والسنة النبوية ، ولاسيما أن ذكر الكتاب والحكمة جاء مع ذكر الكتب الأخرى ، وهى التوراة والإنجيل ، مما يعنى أننا موطن لسرد الشرائع ، فلما نستبعد أن الله سبحانه وتعالى يعلم نبيه عيسى القرآن الكريم ، والسنة النبوية مادام أنه سينزل مرة أخرى ، ويعيش مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويصلي صلاتهم ، والصلاة هنا تعني اتباع شرعهم ، فكيف هذا من غير أن يكون أعلمهم بالكتاب والسنة ، ويقدمهم على التوراة والإنجيل؟

الإجابة

الحمد لله

أولًا:

تأتي الحكمة في القرآن على أكثر من معنى، منها:

أحدها: الموعظة، ومنه قوله تعالى في القمر:  حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ  .

والثاني: السنة، ومنه قوله تعالى في البقرة:  وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ  ، وفيها:  وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ   ، وفي سورة النساء:  وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا  .

والثالث : الفهم ، ومنه قوله تعالى في لقمان:  وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ  .

والرابع: النبوة ، ومنه قوله تعالى في البقرة:  وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ  ، وفي ص:  وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ  .

والخامس: القرآن، ومنه قوله تعالى في النحل:  ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ ، وقوله:  يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ .

انظر: "نزهة الأعين النواظر"(262).

فليست الحكمة في القرآن بمعنى السنة فقط ، بل تأتي لمعان أخرى .

قال ابن القيم: " الحكمة في كتاب الله نوعان: مفردة. ومقترنة بالكتاب.

فالمفردة: فسرت بالنبوة ، وفسرت بعلم القرآن. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي علم القرآن: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه. ومقدمه ومؤخره. وحلاله وحرامه. وأمثاله.

وقال الضحاك: هي القرآن والفهم فيه . وقال مجاهد: هي القرآن والعلم والفقه. وفي رواية أخرى عنه: هي الإصابة في القول والفعل.

وقال النخعي: هي معاني الأشياء وفهمها.

وقال الحسن: الورع في دين الله . كأنه فسرها بثمرتها ومقتضاها.

وأما الحكمة المقرونة بالكتاب: فهي السنة. وكذلك قال الشافعي وغيره من الأئمة.

وقيل: هي القضاء بالوحي . وتفسيرها بالسنة أعم وأشهر.

وأحسن ما قيل في الحكمة. قول مجاهد، ومالك: إنها معرفة الحق والعمل به. والإصابة في القول والعمل.

وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن، والفقه، في شرائع الإسلام، وحقائق الإيمان " انتهى من " مدارج السالكين"(2/ 448).

ثانيًا:

اختار الطبري أن أي سنة يوحيها الله لنبي في غير كتاب، فإنه يطلق عليها حكمة، فقال في قوله تعالى:  وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ آل عمران/ 48: " والحكمة: وهي السنة التي نوحيها إليه في غير كتاب " الطبري: (5/ 416).

وقال ابن عطية: " وأما الْحِكْمَةَ، فهي السنة التي يتكلم بها الأنبياء ، في الشرعيات ، والمواعظ، ونحو ذلك، مما لم يوح إليهم في كتاب ولا بمَلَك، لكنهم يُلهمون إليه وتقوى غرائزهم عليه .

وقد عبر بعض العلماء عن الْحِكْمَةَ بأنها الإصابة في القول والعمل، فذكر الله تعالى في هذه الآية أنه يعلم عيسى عليه السلام الحكمة .." انتهى من "تفسير ابن عطية "(1/ 438).

إذًا: " فالحكمة التي جاءت بها الرسُلُ هي الحكمةُ الحقّ، المتضمنة للعلم النافع والعمل الصالح، للهُدَى ودين الحق، لإصابة الحق ، اعتقادًا وقولًا وعملًا .

وهذه الحكمة فَرّقها الله سبحانه بين أنبيائه ورسله، وجمعها لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كما جمع له من المحاسن ، ما فَرّقَه في الأنبياء قبله، وجمعَ في كتابه من العلوم والأعمال ، ما فَرّقه في الكُتُب قبله .

فلو جُمِعت كلّ حكمةٍ صحيحةٍ في العالم ، من كلّ طائفةٍ، لكانت في الحكمة التي أوتيها صلوات الله وسلامه عليه جزءًا يسيرًا جدًّا، لا يُدْركُ البشر نسبته " انتهى من "إغاثة اللهفان" (2/ 1018).

ثالثًا:

وبناء على ما سبق ، فلا يقال : إن الحكمة هنا بمعنى السنة، وان الله علمها لعيسى عليه السلام لأنه سينزل آخر الزمان، وذلك لأمور:

1- أن ذلك يخالف السياق، فالسياق خاص بعيسى عليه السلام، وبما أنزل عليه ، وعلمه إياه في زمانه ، وجعله آية له ، ونعمة من الله عليه ؛ فلا يصح بحال أن يقال : إن المراد بالحكمة هنا: سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، بناء على أنه سوف ينزل آخر الزمان .

2- أن هذا التفسير يخالف الظاهر المتبادر ؛ " وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب ، دون الخفي الباطن منه، حتى تأتي دلالة من الوجه الذي يجب التسليم له بمعنى خلاف دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن، أولى "، كما يقرره الإمام الطبري في "تفسيره" (2/ 367) .

وقال في موطن آخر: " وغير جائز ترك الظاهر المفهوم من الكلام إلى باطن لا دلالة على صحته "،"التفسير"(1/ 621) .

وقال: " وغير جائز إحالة الظاهر إلى الباطن من التأويل بغير برهان "، "التفسير"(2/ 469).

وهذا يقال في التأويل المذكور : أنه ترك للمفهوم من الآية ، ولما يدل عليه سياقها ، من غير دليل واضح ، ولا خبر ناطق بذلك .

3- أن هذا القول لم يرد عن السلف، ولم يصح فيه شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته ؛ وهذا دليل كاف في رده وبيان بطلانه .

وقد قال الطبري جامعًا بين الحجتين السابقتين: " فغير جائز أن يترك المفهوم من ظاهر الكتاب والمعقول به ظاهر في الخطاب والتنزيل إلى باطن لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل ولا خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم منقول ولا فيه من الحجة إجماع مستفيض " "التفسير"(2/ 71)، وقال: " فإنه قول خطأ فاسد لخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين من أهل التفسير والتأويل، فكفى دلالة على خطئه شهادة الحجة عليه بالخطأ" "التفسير"(1/ 223).

" والتأويل المجمع عليه أولى بتأويل القرآن من قول لا دلالة على صحته من أصل ولا نظير "  انتهى من "الطبري " (1/ 298).

وليحذر العبد من أن ينساق وراء الخواطر ، والسوانح التي ترد على باله في كتاب الله ، من غير أن يرد ذلك إلى أهل العلم به ، ويرجع إلى كلام أهل التأويل ، العالمين بمواضع كلامه .

وننصح بسماع هذا المقطع المفيد :

https://www.youtube.com/watch?v=w1ukorTRCUI

والله أعلم 

Icon