الإجابة
الحمد لله
أولًا:
فإن الواجب على المسلم أن يحذر من دخول هذه المواقع وشبهها ، ما لم يكن لديه من العلم ما يدفع به هذه الشبهات .
ولا تختلف مواقع الإساءة لدين الله وللرسول صلى الله عليه وسلم، عن المجالس التي تشتمل على مثل ذلك الكفر ، وفي كلا الحالين يحرم المكث في تلك المجالس ، ويحرم الدخول لتلك المواقع ، إلا لمن كان قادرا على الإنكار عليهم ، وعنده من القوة والعلم الشرعي ، والبيان : ما يؤهله لذلك المقام الخطير .
وما لم يكن مؤهلا لذلك : فلا يحل له البقاء في ذلك المجلس ، كما لا يحل له الدخول إلى تلك المواقع .
قال تعالى : وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الأنعام/ 68.
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ النساء/140 .
وقد حذَّر علماء الإسلام – قديماً وحديثاً – عموم المسلمين من النظر في كتب أهل البدع والضلال ، ومن محاورة الزنادقة والملحدين ، إلا لمسلم عالِم بدينه ، عالم بوجوه ضلال الضالين ، وانحراف المنحرفين ، قادرا على ردها وبيان زيغها وضلالها ؛ خشية أن تخطف شُبه أولئك المخالفين للشرع قلب ذلك الضعيف أو الجاهل .
وانظر جواب السؤال رقم: (143146).
ثانيًا:
أما عن قوله تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) التوبة/17 - 18.
فالمقصود بالنفي في هذه الآية : أن المساجد إنما تعمر لعبادة الله فيها لا للكفر به ، فمن كان بالله كافرا ، فليس من شأنه أن يعمر مساجد الله ، ولكن يعمر مساجد الله المصدق بوحدانية الله ، المخلص له العبادة واليوم الآخر، يقول: الذي يصدق ببعث الله الموتى أحياء من قبورهم يوم القيامة، وأقام الصلاة المكتوبة بحدودها، وأدى الزكاة الواجبة عليه في ماله إلى من أوجبها الله له.
وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ التوبة/18 يقول: ولم يرهب عقوبة شيء على معصيته إياه سوى الله. فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ يقول: فخليق بأولئك الذين هذه صفتهم أن يكونوا عند الله ممن قد هداه الله للحق وإصابة الصواب
انظر: "تفسير الطبري" (11/ 374).
وقال ابن رجب رحمه الله : " عمارة المساجد تكون بمعنيين:
أحدهما: عمارتها الحسية ببنائها وإصلاحها وترميمها، وما أشبه ذلك.
والثاني: عمارتها المعنوية بالصلاة فيها، وذكر الله وتلاوة كتابه، ونشر العلم الذي أنزله على رسوله، ونحو ذلك.
وقد فسرت الآية بكل واحد من المعنيين، وفسرت بهما جميعا، والمعنى الثاني أخص بها " انتهى من " فتح الباري "(3/ 294).
وأما قوله تعالى: ما كان، فقد ذكر العلماء أن مقصوده: أمر أهل الإسلام بمنعهم، فهو خبر بمعنى الأمر، كقوله تعالى: ( ومن دخله كان آمنًا ) أي: فأمِّنوه أيها المسلمون .
قال الإمام الواحدي: " ومعنى ما كان لهم ذلك: أنه أوجب على المسلمين منعهم عن ذلك .
وأكثر المفسرين حملوا العمارة ههنا على دخول المسجد الحرام ، والقعود فيه، وهو قول ابن عباس والحسن، قال في رواية عطاء: "يريد: لا يدخلوه ولا يقعدوا فيه كما كانوا قبل ذلك" .
وقال الحسن: "يقول: ما كان للمشركين أن يُتْرَكوا فيكونوا أهل المسجد الحرام".
وقال الكلبي: "ما كان للمشركين أن يدخلوا المسجد وهم مشركون".
وذهب آخرون إلى العمارة المعروفة من رَمِّ المُسْتَرِمّ من أبنية المسجد، وهذا محظور على الكافر؛ يُمنع منه ولا يمكن" انتهى من "البسيط"(10/ 328).
وقال البغوي: " أوجب على المسلمين منعهم من ذلك؛ لأن المساجد إنما تُعمر لعبادة الله وحده، فمن كان كافرا بالله فليس من شأنه أن يعمرها.
فذهب جماعة إلى أن المراد منه: العمارة المعروفة ، من بناء المساجد ومرمتها عند الخراب فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى به لا تمتثل.
وحمل بعضهم العمارة ها هنا على دخول المسجد والقعود فيه. قال الحسن: ما كان للمشركين أن يُتْركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام " انتهى من "تفسير البغوي "(4/ 20).
وقال ابن عطية: " معناه ما كان للمشركين ، بحق الواجب ، أن يعمروا .
وهذا هو الذي نفى الله عز وجل ؛ وإلا فقد عمروا مساجده قديما وحديثا ، وتغلبا وظلما " انتهى من "تفسير ابن عطية "(3/ 15).
وخلاصة ذلك :
أن ما ذكره هذا الكافر ، من أنه يعمر المساجد ، ويبنيها ، وهو كافر بالله العظيم (؟!!) : ليس أمرا جديدا ، ولا هو مما خفي على أهل العلم بكتاب الله ؛ فضلا عن أن يكون تكذيبا لخبر الله الصادق ، وحاشاه ، أن يدخل عليه جهل الجاهل ، أو كفر الكافر .
وإنما معنى ذلك :
أن عمارة المساجد ، وبناءها ، وتشييدها ، وكذا عمارتها بذكر الله تعالى ، وعبادته فيها : إنما هي من شأن أهل الإيمان بالله ، وحدهم ، وهي عادتهم وطريقتهم ؛ وهؤلاء هم الذين ينتفعون بعمارتهم للمساجد ، ويرجون أجرها وثوابها عند رب العالمين .
وأما غيرهم من الكفار الجاحدين برب العالمين : فليس ذلك من شأنهم في شيء ، ولا هو من عملهم ، والواجب تطهير بيوت الله جل جلاله من أن يشغلها هؤلاء الكفار الجاحدون ، أو يعملون فيها أعمالا ، ليست لله ، ولا هي خالصة له ، لأنهم من أهل الشرك برب العالمين ، والجحد له .
وينبغي أيضا صيانة بيوت الله ، فلا يبنيها الكفار ، ولا يعمرونها بشيء من العمارات ، بل ينبغي أن يكون ذلك من سعي المؤمنين ، وعملهم ، ومالهم الذين ينفقونه ابتغاء وجه الله .
ومتى تغلب متغلب من الكفار ، ودخل بيوت الله ، أو عمرها (؟!) : فليس ذلك مما ينفعه بشيء عند الله ، والواجب على المؤمنين ، متى علموا بشأن الكفار ، وقدروا عليهم : ألا يمكنوهم من التسلط على بيوت الله ، ولا أن يكون لهم ذكر ولا شأن ، ولا سلطان فيها .
فهذه الآية خبر ، معناه الأمر والنهي؛ الأمر للمؤمنين ، أن يتقربوا إلى رب العالمين بعمارة بيوته ، بجيمع أنواع العمارات ، الحسية ، ببنائها وتشييدها ، وتنظيفها وتطهيرها ، وصيانتها .
والعمارة المعنوية : بألا يزال ذكر الله فيها ظاهرا ، وألا تزال معمورة بالذكر والصلاة وتلاوة القرآن ، ومجالس العلم النافع .
وفيها النهي أيضا : أن يمكنوا المشركين منها ، أو يسلطوهم على بيوت الله .
ومتى خالف المؤمنون ، فقصروا في شيء من عمارة المساجد ، فسبيلهم هنا ، هو سبيلهم في جميع الأوامر الشرعية التي قصروا فيها . وليس ذلك ردا لأصل الشرع ، ولا هو تكذيب لخبر من أخبار الله ، بل هي معصية ، لمن قصر وفرط ، وهو قادر على العمل .
ومتى خالف الكفار المشركون الجاحدون لرب العالمين ، فدخلوا المساجد ، أو شغلوها ، أو بنوها ، أو شيدوها ، أو عمروها فإن ذلك مما لا ينفعهم عند الله بشيء ، ولا لهم فيه عند الله أجر ولا نصيب ، ولهذا أخبر الله تعالى عن أن من عمل ذلك من أهل الكفر ، فعمله حابط ، لا ينفعه بشيء عند الله ، قال تعالى : مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ التوبة/17-18
وهو نظير قول الله تعالى : وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا الفرقان/23
قال الشيخ السعدي رحمه الله :
" مَا كَانَ أي: ما ينبغي ولا يليق لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ بالعبادة، والصلاة، وغيرها من أنواع الطاعات، والحال أنهم شاهدون ومقرون على أنفسهم بالكفر بشهادة حالهم وفطرهم، وعلم كثير منهم أنهم على الكفر والباطل.
فإذا كانوا شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وعدم الإيمان، الذي هو شرط لقبول الأعمال، فكيف يزعمون أنهم عُمَّارُ مساجد الله، والأصل منهم مفقود، والأعمال منهم باطلة؟!!.
ولهذا قال: أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ أي: بطلت وضلت وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ
ثم ذكر من هم عمار مساجد الله فقال: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ الواجبة والمستحبة، بالقيام بالظاهر منها والباطن.
وَآتَى الزَّكَاةَ لأهلها وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ أي قصر خشيته على ربه، فكف عما حرم الله، ولم يقصر بحقوق الله الواجبة.
فوصفهم بالإيمان النافع، وبالقيام بالأعمال الصالحة التي أُمُّها الصلاة والزكاة، وبخشية الله التي هي أصل كل خير، فهؤلاء عمار المساجد على الحقيقة وأهلها الذين هم أهلها.
فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ و "عسى" من الله واجبة. وأما من لم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا عنده خشية لله، فهذا ليس من عمار مساجد الله، ولا من أهلها الذين هم أهلها، وإن زعم ذلك وادعاه." انتهى من "تفسير السعدي" (331) .
والله أعلم .