الإجابة
الحمد لله
المقصود بالعبودية هنا، أي: الملك، فالأصنام مملوكة لله تعالى، لأن الخلق كلهم ملك لله عز وجل، وهو المتصرف فيهم،
يقول الطبري: " يقول جل ثناؤه لهؤلاء المشركين من عبدة الأوثان ، موبخهم على عبادتهم ما لا يضرهم ولا ينفعهم من الأصنام: إن الذين تدعون أيها المشركون آلهة من دون الله ، وتعبدونها ، شركا منكم وكفرا بالله، عباد أمثالكم [الأعراف: 194] يقول:
هم أملاك لربكم، كما أنتم له مماليك ، فإن كنتم صادقين أنها تضر وتنفع وأنها تستوجب منكم العبادة لنفعها إياكم ، فليستجيبوا لدعائكم إذا دعوتموهم ، فإن لم يستجيبوا لكم لأنها لا تسمع دعاءكم، فأيقنوا بأنها لا تنفع ولا تضر؛ لأن الضر والنفع إنما يكونان ممن إذا سئل سمع مسألة سائل وأعطى وأفضل، ومن إذا شكي إليه من شيء سمع فضر من استحق العقوبة ونفع من لا يستوجب الضر" "تفسير الطبري" (10/ 635)، و"التفسير البسيط" (3/ 315).
وقال أبو حيان في ذكر أوجه أخرى: " وسمى الأصنام عبادًا وإن كانت جمادات:
1- لأنهم كانوا يعتقدون فيها أنها تضر وتنفع، فاقتضى ذلك أن تكون عاقلة وأمثالكم.
2- قال الحسن: في كونها مملوكة لله .
3- وقال التبريزي: في كونها مخلوقة .
4- وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمُرَادُ طَائِفَةٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ خُزَاعَةَ كَانَتْ تَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ فَأَعْلَمَهُمْ تَعَالَى أَنَّهُمْ عِبَادٌ أَمْثَالُهُمْ لَا آلِهَةٌ " "البحر المحيط" (5/ 249).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وقد يطلق لفظ العبد على المخلوقات كلها، كقوله: إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم " انتهى من "مجموع الفتاوى" (1/44) .
وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله :
" إنما أطلق على الأصنام اسم العباد وعبّر عنها بضمائر العقلاء؛ لأن الكفار يصفونها بصفات من هو خير من مطلق العقلاء، أنها معبودات، وأنها تشفع وتقرِّبُ إلى اللهِ زُلْفَى، فبهذا الاعتبار أجرى عليها ضمائر العقلاء، وعبّر عنها بالعباد. ووجه مماثلتهم هنا: أن الكفار العابدين، والأصنام المعبودات كلهم مخلوقات لله لا تقدر أن تجلب لنفسها نفعًا ولا أن تدفع عنها ضرًّا. فهم من قبيل تَسْخِيرِ الله لهم، وخلقه للجميع ، وقدرته على الجميع ، بهذا الاعتبار هم سواء ؛ ولذا قال: عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ بهذا الاعتبار، وفي الآية التي بعدها سيبيّن انحطاط درجة المعبودين عن العابدين، كما سيأتي إيضاحه قريبًا إن شاء الله. " انتهى من "العذب النمير" (4/425) .
وينظر أيضا : "تفسير ابن كثير"(3/ 529).
وقال العلامة ابن عاشور ، رحمه الله ، في تقرير وجه الإنكار عليهم ، وتوجيه إطلاق "عباد" ، على "أصنامهم" :
" .. المراد بـ : ( الذين تدعون من دون الله ) : الأصنام .
فتعريفها بالموصول : لتنبيه المخاطَبين على خطأ رأيهم ، في دعائهم إياها من دون الله، في حين هي ليست أهلا لذلك !! ...
و (العبد) أصله المملوك، ضد الحر، كما في قوله تعالى: ( الحر بالحر والعبد بالعبد ) [البقرة: 178] .
وقد أطلق في اللسان على المخلوق ، كما في قوله تعالى: ( إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ) [مريم: 93] ...
والمشهور أنه لا يطلق إلا على المخلوقات من الآدميين ؛ فيكون إطلاق العباد على الأصنام ، كإطلاق ضمير جمع العقلاء عليها ؛ بناء على الشائع في استعمال العرب يومئذ من الإطلاق .
وجعله صاحب الكشاف : إطلاق تهكم واستهزاء بالمشركين ؛ يعني : أن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء ؛ فلو بلغوا تلك الحالة ، لما كانوا إلا مخلوقين مثلكم !!
قال : ولذلك أبطل أن يكونوا عبادا بقوله : ( ألهم أرجل ) [الأعراف: 195] إلى آخره.
والأحسن عندي أن يكون إطلاق العباد عليهم : مجازا ؛ بعلاقة : الإطلاق عن التقييد . روعي في حُسنه المشاكلة التقديرية ؛ لأنه لما ماثلهم بالمخاطبين ، في المخلوقية ، وكان المخاطبون عبادا لله ؛ أطلق العباد على مماثليهم ، مشاكلة.
وفرع على المماثلة : أمر التعجيز ، بقوله : ( فادعوهم ) ؛ فإنه مستعمل في التعجيز ، باعتبار ما تفرع عليه من قوله : ( فليستجيبوا لكم ) ، المضمَّن : إجابة الأصنام إياهم .
لأن نفس الدعاء : ممكن ؛ ولكن استجابته لهم : ليست ممكنة .
فإذا دعوهم ، فلم يستجيبوا لهم : تبين عجز الآلهة عن الاستجابة لهم، وعجز المشركين عن تحصيلها ، مع حرصهم على تحصيلها لإنهاض حجتهم .
فآل ظهور عجز الأصنام عن الاستجابة لعبادها ، إلى إثبات عجز المشركين عن نهوض حجتهم ؛ لتلازم العجزين، قال تعالى: ( إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ) . [فاطر: 14] ..." انتهى ، مختصرا من "التحرير والتنوير" (9/220-221) .
والله أعلم .