الإجابة
الحمد لله
أولا :
قول الطحاوي "وكل أمر عليه يسير" ، ليس فيه ما يحتاج إلى توضيح .
وليس في كلامه رحمه الله مفاضلة بين أمرين ، بأن هذا الأمر يسير على الله ، والأمر الآخر أيسر ، حتى نستشكل قوله .
والقرآن مليء بالآيات الدالة على يُسْر الأمور عليه سبحانه وتعالى .
وهذا اليسر عليه سبحانه بمنزلة واحدة لا تفاوت بينها ، وليس هناك يسير وأيسر ، أو يسير وأعسر منه .
كما قال سبحانه تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) سورة العنكبوت: 19.
وقال سبحانه (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) سورة النساء/3.
والآيات في ذلك كثيرة .
ثانيا :
أما معنى قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) سورة الروم/27 .
فهو من باب ضرب المثل العقلي للرد على منكري البعث وبيان تناقضهم ؛ كيف يقرون بالخلق الأول ، ويستبعدون الإعادة مرة أخرى .
وإلا فمن المعلوم أن إيجاد الخلق ابتداء وإعادة ، لا تفاوت فيه بالنسبة لقدرة الله عزو وجل (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) سوءة يس/82
وقد أحصى ابن الجوزي في هذه الآية أربعة أقوال .
قال في "زاد المسير" (3/420) :
"وفيه أربعة أقوال: أحدها: أن الإِعادة أهون عليه من البداية، وكُلُّ هيِّنٌ عليه، قاله مجاهد، وأبو العالية.
والثاني: أنّ "أهون" بمعنى "هين" عليه، فالمعنى: وهو هيِّن عليه، وقد يوضع "أفعل" في موضع "فاعل" ، ومثله قولهم في الأذان:
الله أكبر، أي: الله كبير، قال الفرزدق:
إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنى لَنَا ... بَيْتاً دعَائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ
وقال معن بن أوس المزني:
لَعَمْرُكَ مَا أدْري وإِنِّي لأوجَلُ ... على أيِّنا تغدو المَنِيَّةُ أَوَّلُ
أي: وإِنِّي لَوَجِل، وقال غيره:
أصبحتُ أمنحُك الصُّدودَ وإِنَّني ... قسماً إِليك مع الصُّدود لأَمْيَلُ
وأنشدوا أيضاً:
تَمَنَّى رِجالٌ أنْ أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأَوْحَدِ
أي: بواحد .
هذا قول أبي عبيدة، وهو مرويّ عن الحسن، وقتادة.
وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو عمران الجوني، وجعفر بن محمد: (وهو هَيِّن عليه) .
والثالث: أنه خاطب العباد بما يعقلون، فأعلمهم أنه يجب أن يكون عندهم البعث أسهل من الابتداء، في تقديرهم وحُكمهم، فمن قَدَرَ على الإِنشاء، كان البعثُ أهونَ عليه .
هذا اختيار الفراء، والمبرد، والزجاج، وهو قول مقاتل.
وعلى هذه الأقوال الثلاثة تكون الهاء في عليه عائدة إلى الله عزّ وجلّ.
والرابع: أن الهاء تعود على المخلوق، لأنه خلَقه نطفة ثم علقة ثم مضغة، ويوم القيامة يقول له كن فيكون، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو اختيار قطرب" انتهى .
والقول الثالث هو أقوى الوجوه ، ونسبه البغوي إلى مجاهد وعكرمة .
قال البغوي : "وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ : أَيْ : أَيْسَرُ ؛ وَوَجْهُهُ : أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ ضرب المثل ، أَيْ : هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ، عَلَى مَا يَقَعُ فِي عُقُولِكُمْ، فَإِنَّ الَّذِي يَقَعُ فِي عُقُولِ النَّاسِ : أَنَّ الْإِعَادَةَ تَكُونُ أَهْوَنَ مِنَ الْإِنْشَاءِ" انتهى من "تفسير البغوي" (3/576) .
وقال ابن عاشور :
"وَلَمَّا كَانَ إِنْكَارُهُمُ الْإِعَادَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ ، مُتَضَمِّنًا تَحْدِيدَ مَفْعُولِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ ، جَاءَ التَّنَازُلُ فِي الِاسْتِدْلَالِ إِلَى أَنَّ تَحْدِيدَ مَفْعُولِ الْقُدْرَةِ لَوْ سَلَمَ لَهُمْ لَكَانَ يَقْتَضِي إِمْكَانَ الْبَعْثِ بِقِيَاسِ الْأَحْرَى فَإِنَّ إِعَادَةَ الْمَصْنُوعِ مَرَّةً ثَانِيَةً أَهْوَنُ عَلَى الصَّانِعِ مِنْ صَنْعَتِهِ الْأُولَى... فَظَاهِرُهُ أَنَّ أَهْوَنُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْمُفَاضَلَةِ عَلَى طَرِيقَةِ إِرْخَاءِ الْعِنَانَ وَالتَّسْلِيمِ الْجَدَلِيِّ، أَيِ الْخَلْقُ الثَّانِي أَسْهَلُ مِنَ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ... وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مُجَرَّدُ تَقْرِيبٍ لِأَفْهَامِهِمْ عَقَّبَ بِقَولِهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ ثَبُتَ لَهُ وَاسْتَحَقَّ الشَّأْنَ الْأَتَمَّ الَّذِي لَا يُقَاس بشؤون النَّاسِ الْمُتَعَارَفَةِ وَإِنَّمَا لِقَصْدِ التَّقْرِيبِ لِأَفْهَامِكُمْ" انتهى من "التحرير والتنوير" (21/83) .
وقال الشيخ ابن عثيمين :
"فهذه دلالة عقلية; فالعقل يؤمن إيمانا كاملا بأن من قدر على الابتداء فهو قادر على الإعادة من باب أولى" انتهى من "القول المفيد" (2/433) .
وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله في سياقه لهذه الآيات ، وتفسيره لها :
" ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .
أي: ومن آياته العظيمة أن قامت السماوات والأرض ، واستقرتا وثبتتا بأمره فلم تتزلزلا ولم تسقط السماء على الأرض، فقدرته العظيمة التي بها أمسك السماوات والأرض أن تزولا يقدر بها أنه إذا دعا الخلق دعوة من الأرض إذا هم يخرجون (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ)
(وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) الكل خلقه ومماليكه المتصرف فيهم من غير منازع ولا معاون ولا معارض وكلهم قانتون لجلاله خاضعون لكماله.
(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ) أي: الإعادة للخلق بعد موتهم (أَهْوَنُ عَلَيْهِ) من ابتداء خلقهم وهذا بالنسبة إلى الأذهان والعقول، فإذا كان قادرا على الابتداء الذي تقرون به ، كانت قدرته على الإعادة التي أهون أولى وأولى.
ولما ذكر من الآيات العظيمة ما به يعتبر المعتبرون ويتذكر المؤمنون ويتبصر المهتدون ذكر الأمر العظيم والمطلب الكبير فقال: (وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) وهو كل صفة كمال، والكمال من تلك الصفة والمحبة والإنابة التامة الكاملة في قلوب عباده المخلصين والذكر الجليل والعبادة منهم. فالمثل الأعلى هو وصفه الأعلى وما ترتب عليه.
ولهذا كان أهل العلم يستعملون في حق الباري قياس الأولى، فيقولون: كل صفة كمال في المخلوقات فخالقها أحق بالاتصاف بها على وجه لا يشاركه فيها أحد، وكل نقص في المخلوق ينزه عنه فتنزيه الخالق عنه من باب أولى وأحرى.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الحكيم) أي: له العزة الكاملة والحكمة الواسعة، فعزته أوجد بها المخلوقات وأظهر المأمورات، وحكمته أتقن بها ما صنعه وأحسن فيها ما شرعه. " . انتهى، من " تفسير السعدي" (640) .
والله أعلم .