الإجابة
الحمد لله
أولًا:
للنفس الإنسانية حضور كبير في القرآن المجيد، وقد برز هذا الحضور بشكل واضح في القصص القرآني، ولم تكن التفاسير غفلًا من الحديث عن الجوانب النفسية في حديث القرآن عن الإنسان، وبخاصة في ثنايا الحديث عن القصص القرآني .
وهناك عدة كتب في هذا الموضوع، من أهمها:
1- لمحات نفسية في القرآن الكريم، لعبدالحميد محمد الهاشمي، من إصدارات مجلة دعوة الحق بالرباط .
2- النماذج الإنسانية في القرآن، لأحمد محمد فارس، من نشر دار الفكر العربي، بيروت .
ولعل أهم الدراسات المقدمة في هذا الجانب،
3- التعبير القرآني، والدلالة النفسية، للدكتور عبدالله بن محمد الجيوسي رحمه الله، من إصدارات دار الغوثاني للدراسات القرآنية .
وذكر الدكتور الجيوسي عددًا من الكتب التي اهتمت بهذه القضية، كما بحثها من جهة التأصيل، وذكر عددًا من الضوابط لما أسماه " المنهج النفسي في تفسير القرآن " كان من أهمها:
- التزام الخطاب القرآني منطلقًا ومدارًا، واستقراء النصوص القرآنية في الموضوع المتحدث عنه في المواقع المختلفة .
- تتبع ما صح من التفسير المأثور للنص .
- الوقوف على بيئة نزول النص .
- الرجوع إلى الأصل اللغوي لألفاظ القرآن، واستعمالاتها ودلالاتها .
- ضرورة ملاحظة قواعد اللغة .
- النظر إلى النصوص القرآنية على أنها نصوص متكاملة في الموضوع الواحد .
- إلمام المفسر بالعلوم المتصلة بالقرآن .
- النظر في لوازم النص ومقتضياته .
- أن لا يعتمد على الذوق وحده في فهم النص .
انظر: التعبير القرآني: (559 - 592).
ثانيًا:
إن على المؤمن أن يعظم أنبياء الله تعالى وأن يتأدب في الحديث عنهم، فإن الله اصطفاهم على سائر الناس، قال الله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ) [آل عمران: 179]، وقال سبحانه: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) [الح 75]، وقال تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام: 124].
بل هم القدوة الذين أمر الله بالاقتداء بهديهم، كما قال سبحانه: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ) [الأنعام: 90].
وقد ذكر الله تعالى يعقوب عليه السلام من هؤلاء السادة .
وفي قصة يوسف عليه السلام فضائل جمة ليعقوب عليه السلام، فمنها:
1- حكمة يعقوب عليه السلام في توجيه يوسف للأفضل .
2- صبره عليه السلام طوال تلك السنوات على فقد يوسف، وفقد ولده الآخر من بعده، فإن قال قائل؛ إنه قد حزن ؟
قلنا: وأين في ذلك ما يخالف طبيعة النفس البشرية على فقد حبيب أو عزيز، فلقد جبل الله البشر على هذا، فحزنه عليه السلام طبيعة بشرية لا ينفك عنها نبي من أنبياء الله تعالى .
3- ومن فضائله في هذه القصة العظيمة: عظيم اعتماده وتوكله على الله تعالى مع أخذه بالأسباب، وثقته في موعود ربه وخالقه، وبثه روح التفاؤل وعدم اليأس من رحمة الله .
4- حرصه على تربية أبنائه، وتعليقهم بالله تعالى .
5- ومنها: رحمته وشفقته عليه السلام .
ثالثًا:
قد علمت من الجواب السابق أن الكاتب أخطأ في أمور:
1- إخلاله بالتعظيم الواجب لأنبياء الله تعالى .
2- خطؤه في تلك القضية تحديدًا، فلقد جاء في القرآن ما يثبت أن يعقوب عليه السلام كان ذا سكينة ووقار، وبث للتفاؤل، ومن ذلك قوله لبنيه: (يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) يوسف/ 87، وقوله: (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) يوسف/96-98
فهل هذه شخصية توصف بالقلق والشك .
أما المواقف التي ذكرها، فإنها مواقف متناغمة مع الطبيعة البشرية:
1- فقد خاف على ولده أن يذهب مع إخوته.
يقول ابن كثير في تفسيره: (4/ 373)، في بيان ذلك: " يقول تعالى مخبرا عن نبيه يعقوب أنه قال لبنيه، في جواب ما سألوا من إرسال يوسف معهم إلى الرعي في الصحراء: (إني ليحزنني أن تذهبوا به) أي: يشق علي مفارقته، مدةَ ذهابكم به إلى أن يرجع، وذلك لفرط محبته له، لما يتوسم فيه من الخير العظيم، وشمائل النبوة والكمال في الخلق والخلق، صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: (وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون) يقول: وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورعيتكم، فيأتيه ذئب، فيأكله، وأنتم لا تشعرون .
فأخذوا من فمه هذه الكلمة، وجعلوها عذرهم فيما فعلوه، وقالوا مجيبين عنها في الساعة الراهنة: (لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون) يقولون: لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا، ونحن جماعة، إنا إذا لهالكون عاجزون" . انتهى .
أما الآية الثانية، وهي قوله سبحانه: ( وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) يوسف/67-68
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في بيانها: " يقول تعالى، إخبارا عن يعقوب، عليه السلام: إنه أمر بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين إلى مصر، ألا يدخلوا كلهم من باب واحد، وليدخلوا من أبواب متفرقة، فإنه كما قال ابن عباس، ومحمد بن كعب، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي: إنه خشي عليهم العين، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة، ومنظر وبهاء، فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم؛ فإن العين حق، تستنزل الفارس عن فرسه.
وروى ابن أبي حاتم، عن إبراهيم النخعي في قوله: (وادخلوا من أبواب متفرقة) قال: علم أنه سيلقى إخوته في بعض الأبواب.
وقوله: (وما أغني عنكم من الله من شيء) أي: هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه؛ فإن الله إذا أراد شيئا، لا يخالَف ولا يمانَع (إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) .
قالوا: هي دفع إصابة العين لهم .
(وإنه لذو علم لما علمناه) قال قتادة والثوري: لذو عمل بعلمه. وقال ابن جرير: لذو علم لتعليمنا إياه، (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)"، تفسير ابن كثير: (4/ 400).
وفي هذا كله: استعمال الأسباب الدافعة للعين أو غيرها من المكاره، أو الرافعة لها بعد نزولها، وليس شيء من ذلك ممنوعا ، ولا هو مما يخل بمقام صاحبه ، حاشاه من ذلك ؛ فإن الشرائع طافحة ، والفطر الإنسانية دافعة : إلى مراعاة الأساب والأخذ بها ؛ وإن كان لا يقع شيء إلا بقضاء وقدر، فإن الأسباب أيضا من القضاء والقدر .
وينظر: تفسير السعدي: (407).
فأين هذا من القلق والشك ؟!
والحاصل :
أن مقام الأنبياء مقام عظيم ، يجب على العبد أن يتحرز في حديثه عنه ، ويعلم أن للأنبياء من حقوق المهابة والإجلال ، والتعظيم والتوقير : ما لا يخفى على مسلم ، ولا يحل له أن يجعلهم كغيرهم من الناس في ذلك ، ولا أن يجعلهم ( حقلا لتجاربه ) ، حاشاهم من ذلك .
فليحذر العبد على نفسه مقام الزيغ والفتنة ، وليحذر على نفسه أن يتكلم بكلمة ، تهوي به في المهاوي ، ولا يتلقاها عنه إلا كل ضال ، وغاوي !!
والله أعلم .