الإجابة
الحمد لله
ليس في الآية إشارة إلى الساعة وأنها تقوم بعدما تبلغ حضارة الدنيا أوجها ، وأقصى
حدودها .
ومعنى الآية واضح ، وله نظائر عديدة في القرآن ، يشبه الله عز وجل حال الدنيا وسرعة
زوالها من أهلها ، مع اغترارهم بها بالنبات ، حيث لا يلبث حتى يصير هشيما ؛ كما قال
تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ
السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ
الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا) [ الكهف : 45 ] .
وسياق الآية بتمامه ظاهر جدا في ذلك ، قال الله تعالى : (إِنَّمَا مَثَلُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ
الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ
عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا
كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ ) يونس/24
فقد صرحت الآية بأن سياقها سياق مثل للحياة الدنيا ، وما يكون من مآلها ، وسرعة
زوالها .
قال ابن كثير :
" ضرب تبارك وتعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها ،
بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بما أنزل من السماء من الماء ، مما يأكل الناس من
زرع وثمار ، على اختلاف أنواعها وأصنافها ، وما تأكل الأنعام من أبٍّ وقَضْبٍ وغير
ذلك ، ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ) أي : زينتها الفانية ، ( وازينت ) أي : حسنت
بما خرج من رُباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان ، ( وظن أهلها ) الذين
زرعوها وغرسوها ( أنهم قادرون عليها ) أي : على جذاذها وحصادها ، فبينا هم كذلك ،
إذ جاءتها صاعقة ، أو ريح باردة ، فأيبست أوراقها ، وأتلفت ثمارها ؛ ولهذا قال
تعالى : ( أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا ) أي : يبسا بعد تلك الخضرة
والنضارة ، ( كأن لم تغن بالأمس ) أي : كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك " انتهى من "
تفسير ابن كثير " (4/260) .
وقال الشيخ محمد رشيد رضا ، رحمه الله :
" (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أَيْ كَهَذَا الْمَثَلِ
فِي جَلَائِهِ وَتَمْثِيلِهِ لِحَقِيقَةِ حَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَغُرُورِ
النَّاسِ فِيهَا، وَسُرْعَةِ زَوَالِهَا، عِنْدَ تَعَلُّقِ الْآمَالِ بِنَوَالِهَا
= نُفَصِّلُ الْآيَاتِ فِي حَقَائِقِ التَّوْحِيدِ، وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ،
وَأَمْثَالِ الْوَعْظِ وَالتَّهْذِيبِ، وَكُلِّ مَا فِيهِ صَلَاحُ النَّاسِ فِي
عَقَائِدِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ، وَاسْتِعْدَادِهِمْ
لِمَعَادِهِمْ، لِقَوْمٍ يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ فِيهَا،
وَيَزِنُونَ أَعْمَالَهُمْ بِمَوَازِينِهَا، فَيَتَبَيَّنُونَ رِبْحَهَا
وَخُسْرَانَهَا.
وَالْعِبْرَةُ لِمُسْلِمِي عَصْرِنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ
الْمُنَزَّلَةِ وَأَمْثَالِهَا، الَّتِي اهْتَدَى بِهَا الشَّعْبُ الْعَرَبِيُّ
فَخَرَجَ مِنْ شِرْكِهِ وَخُرَافَاتِهِ وَأُمِّيَّتِهِ وَبَدَاوَتِهِ، إِلَى نُورِ
التَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْحَضَارَةِ، ثُمَّ اهْتَدَى
بِدَعْوَتِهِ إِلَيْهَا الْمَلَايِينُ مِنْ شُعُوبِ الْعَجَمِ، فَشَارَكَتْهُ فِي
هَذِهِ السَّعَادَةِ وَالنِّعَمِ = أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حَظٌّ مِنْهَا
إِلَّا تَرْتِيلَهَا بِالنَّغَمَاتِ فِي بَعْضِ الْمَوَاسِمِ والْمَآتِمِ، وَلَا
يَخْطُرُ لَهُمْ بِبَالٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ التَّفَكُّرُ لِلِاهْتِدَاءِ
بِهَا!!
وَلَوْ تَفَكَّرُوا: لَاهْتَدَوْا، وَإِذًا لَعَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا يَشْكُو
مِنْهُ الْبَشَرُ مِنَ الشَّقَاءِ بِالْأَمْرَاضِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ
وَالرُّوحِيَّةِ، وَالرَّذَائِلِ النَّفْسِيَّةِ، وَالْعَدَاوَاتِ الْقَوْمِيَّةِ،
وَالْحُرُوبِ الدَّوْلِيَّةِ، فَإِنَّمَا سَبَبُهُ التَّنَافُسُ فِي مَتَاعِ هَذِهِ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ مَنْ تَفَكَّرَ فِي هَذَا، وَكَانَ عَلَى بَصِيرَةٍ
مِنْهُ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَلْتَزِمَ الْقَصْدَ وَالِاعْتِدَالَ فِي حَيَاتِهِ
الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَيَصْرِفَ جُلَّ مَالِهِ وَهِمَّتِهِ فِي
إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَعِزَّةِ أَهْلِ مِلَّتِهِ، وَقُوَّةِ دَوْلَتِهِ،
وَالِاسْتِعْدَادِ لِآخِرَتِهِ، فَيَكُونَ مِنْ أَهْلِ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ."
انتهى، من "تفسير المنار" (11/284) .
ولم نجد أحدا فسّر الآية بمثل ما قاله السائل سوى تفسير محدَث قاله به الشيخ
أحمد الغماري ، ورد عليه فيه الشيخ حمود التويجري ، في كتابه " إيضاح المحجة " .
قال الشيخ حمود التويجري في " إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة " (ص74) ، ناقلا
قول الغماري :
وقال في صفحة (38) ما نصه :
" ومن ذلك زينة الأرض وحضارتها ، بتعبيد الطرق وإحداث الشوارع وإضاءتها بالأنوار
ووجود الأبنية الطويلة ذات الطبقات المتعددة ، وغير ذلك من أنواع الزينة والحضارة .
وقد ذكر الله تعالى ذلك من أشراط الساعة الدالة على قربها جداً ، فقال تعالى (
حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا
أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا
فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ ) .
والجواب أن يقال: إن هذه الآية ليست واردة في أشراط الساعة كما زعمه المصنف ،
وإنما هي مثل ضربه الله تعالى لزهرة الحياة الدنيا وزينتها ، وسرعة انقضائها
وزوالها ، بالنبات الذي يخرجه الله تعالى من الأرض ، بالماء الذي ينزله من السماء .
ولهذه الآية نظائر في سورة الكهف وسورة الزمر وسورة الحديد وقد ذكرتها فيما تقدم "
انتهى .
والله أعلم .