الفتاوى

سبب عدم تعليق يوسف عليه السلام الأمر بمشيئة الله في قوله تعالى (اذهبوا بقميصي هذا ..)الآية
في سورة يوسف الآية ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) (93) ينتابني تساؤل معين وهو أنه، ما الحكمة في عدم قول سيدنا يوسف عليه السلام "إن شاء الله" أو "باذن الله" بعد كلمة يأت بصيراً، ولم ينسب الأمر لله، مع إنه في مثل هذه الحالات ينسب الأمر لله للتأكيد على أن القدرة والمشيئة بيد الله وليس بسبب الإنسان أو المادة، كما ورد في عدة مواضع في القرآن الكريم. مثل: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)يوسف وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)البقرة قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)الكهف سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27)القصص يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)الصافات لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)الفتح وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ والسؤال هنا هو للاستزادة من العلم والتفقه والتدبر في كتاب الله وليس من باب الطعن او المخالفة والعياذ بالله وبارك الله بكم

الإجابة

الحمد لله

أولًا:

قد أرشد الله سبحانه وتعالى أهل الإيمان إلى لون من ألوان الأدب، وهو تقديم مشيئة الله تعالى، كما قال سبحانه: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا) الكهف/ 24.

"وهذا تأديب من الله عز ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عهد إليه: أن لا يجزم على ما يحدث من الأمور أنه كائن لا محالة، إلا أن يصله بمشيئة الله، لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله"، تفسير الطبري: (15/ 224).

يقول الشيخ السعدي رحمه الله: "هذا النهي كغيره، وإن كان لسبب خاص وموجها للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الخطاب عام للمكلفين، فنهى الله أن يقول العبد في الأمور المستقبلة، (إني فاعل ذلك) من دون أن يقرنه بمشيئة الله، وذلك لما فيه من المحذور، وهو: الكلام على الغيب المستقبل، الذي لا يدري، هل يفعله أم لا؟ وهل تكون أم لا؟

وفيه رد الفعل إلى مشيئة العبد استقلالا وذلك محذور محظور، لأن المشيئة كلها لله (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) ولما في ذكر مشيئة الله، من تيسير الأمر وتسهيله، وحصول البركة فيه، والاستعانة من العبد لربه .

ولما كان العبد بشرا، لا بد أن يسهو فيترك ذكر المشيئة، أمره الله أن يستثني بعد ذلك، إذا ذكر، ليحصل المطلوب، ويندفِع المحذور .

ويؤخذ من عموم قوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) الأمر بذكر الله عند النسيان، فإنه يزيله، ويذكر العبد ما سها عنه .

وكذلك يؤمر الساهي الناسي لذكر الله، أن يذكر ربه، ولا يكونن من الغافلين .

ولما كان العبد مفتقرا إلى الله في توفيقه للإصابة، وعدم الخطأ في أقواله وأفعاله، أمره الله أن يقول: (عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا) فأمره أن يدعو الله ويرجوه، ويثق به أن يهديه لأقرب الطرق الموصلة إلى الرشد.

وحري بعبد، تكون هذه حاله، ثم يبذل جهده، ويستفرغ وسعه في طلب الهدى والرشد، أن يوفق لذلك، وأن تأتيه المعونة من ربه، وأن يسدده في جميع أموره"، تيسير الكريم الرحمن: (474).

ثانيًا:

لقد استخدم يوسف عليه السلام هذا الأدب كما حكى الله عنه: (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) يوسف/99.

قال الإمام أبو الحسن الواحدي رحمه الله :

" والاستثناء يعود إلى الأمن، وإنما قال: آمنين لأنهم كانوا ، فيما خلا ، يخافون ملوك مصر ولا يدخلونها إلا بجوارهم." انتهى، من "التفسير الوسيط" (2/635) .

وقال أيضا :

" وقوله تعالى: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) قال لهم هذا القول قبل دخولهم إلى مصر؛ لأنه كان قد استقبلهم، هذا قول السدي وفرقد السبخي ، وقال عطاء عن ابن عباس: يريد انزلوها آمنين، وعلى هذا سمى النزول دخولاً؛ لاقتران أحدهما بالآخر.

وأما معنى الاستثناء في قوله: (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) فإنه يعود إلى الأمن ، لا إلى الدخول، والمعنى: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله؛ لأنه لا يتيقن الأمن، فتقدم الاستثناء وهو منوي به التأخير ، ذكره أبو بكر وغيره، قال ابن عباس : وإنما قال آمنين؛ لأنهم كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر، ولا يدخلونها إلا بجوارهم ... ". انتهى من "التفسير البسيط" (12/248) .

وأما ترك يوسف عليه السلام للمشيئة في قوله: (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين ) [يوسف: 93].

فالذي يظهر أن يوسف عليه السلام إنما قطع ببصر أبيه يعقوب عن وحي من الله تعالى، ولم يكن ذلك عن اجتهاد منه ، بل بتوقيف من الله تعالى .

وهو أيضًا من تمام البشرى، ومن إتمام النعمة التي أنعمها الله على آل يعقوب، وفيه أيضًا: بيان لإخوة يوسف بزوال الغمة، وإتمام النعمة .

يقول الماتريدي: "وقوله - عز وجل -: (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين) .

دل هذا من يوسف؛ حيث قطع القول فيه أنه يصير بصيرا ، أنه عن وحي قال هذا ، لا عن رأي منه واجتهاد؛ إذ قطع القول فيه ، أنه إذا ألقي على وجهه يصير بصيرا"، تأويلات أهل السنة: (6/ 284).

وقال ابن أبي زمنين: "(فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا) أي: يرجع.

قال: ولولا أن ذلك علمه من وحي الله، لم يكن له به علم"، التفسير: (2/ 339).

وقال ابن الجوزي: "فإن قيل: من أين قطع على الغيب؟

فالجواب: أن ذلك كان بالوحي إليه، قاله مجاهد"، زاد المسير: (2/ 470).

وقال الحسن : " لم يعلم أَنه يعود بَصيرًا إِلَّا بعد أَن أعلمهُ الله ذَلِك." انتهى، من "تفسير السمعاني" (3/63) .

وقد ذكر بعض أهل التفسير في ذلك القميص أنه كان من ثياب الجنة ، وأن الله كساه لإبراهيم حين خرج من النار ، ثم انتقل إلى إسحاق ثم إلى يعقوب ثم إلى يوسف .

قال ابن عطية الأندلسي رحمه الله بعد أن حكى ذلك : " وهذا كله يحتاج إلى سند، والظاهر أنه قميص يوسف الذي هو منه بمنزلة قميص كل أحد" انتهى من المحرر الوجيز: (3/ 278).

والحاصل :

أن الله قد أدب عباده أن يقرنوا حديثهم عن الأمر المستقبل بقول : " إن شاء الله " .

وأما ترك يوسف عليه السلام لذلك في الآية المذكورة : فالظاهر أن ذلك الخبر كان عن وعد الله له ، وخبره بذلك ، ووعده صادق ، وخبره لا يتخلف ، فلذلك لم يحتج إلى الاستثناء فيه ، لأنه ليس بيد العباد ، ولا مشيئتهم .

والله أعلم .

Icon