الإجابة
الحمد لله
أولًا :
قال الله عز وجل : (ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
* الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ)
السجدة/6،7 .
ومعنى الإحسان هنا هو الإتقان ، وليس المراد جمال الصورة .
فتكون هذه الآية كقوله تعالى : (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)
النمل/88 .
وذهب بعض العلماء إلى أن
المراد بالإحسان في الآية هنا هو جمال الصورة .
فتكون الآية حينئذ خاصة بالمخلوقات التي جَمَّلها الله تعالى .
قال القرطبي رحمه الله :
" ( أَحْسَنَ ) أَيْ: أَتْقَنَ وَأَحْكَمَ ، فَهُوَ أَحْسَنَ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ
لِمَقَاصِدِهِ الَّتِي أُرِيدَ لَهَا.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ : "لَيْسَتِ اسْتُ
الْقِرْدِ بِحَسَنَةٍ ، وَلَكِنَّهَا مُتْقَنَةٌ مُحْكَمَةٌ ". وَرَوَى ابْنُ أَبِي
نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: ( أَحْسَنَ كُلَّ شي خَلَقَهُ) قَالَ: أَتْقَنَهُ.
وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وتعالى: ( الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ
) أَيْ لَمْ يَخْلُقِ الْإِنْسَانَ عَلَى خَلْقِ الْبَهِيمَةِ ، وَلَا خَلَقَ
الْبَهِيمَةَ عَلَى خَلْقِ الْإِنْسَانِ .
وَقِيلَ: هُوَ عُمُومٌ فِي اللَّفْظِ ، خُصُوصٌ فِي الْمَعْنَى ، والمعنى: حسّن خلق
كل شي حَسَنٍ" .
انتهى من "تفسير القرطبي" (14/ 90) .
وهذه الآية الواردة في السؤال تشبه قوله تعالى : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ
صُوَرَكُمْ) ، وفيها قولان للمفسرين .
قال النسفي في تفسيره (3/436):
" (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ) أي جعلكم أحسن الحيوان كله وأبهاه ،
بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور ، ومن حسن
صورته أنه خلق منتصباً غير منكب ، ومن كان دميماً مشوه الصورة سمج الخلقة فلا سماجة
ثمّ ، ولكن الحسن على طبقات فلانحطاطها عما فوقها لا تستملح ولكنها غير خارجة عن حد
الحسن ، وقالت الحكماء : شيئان لا غاية لهما ، الجمال والبيان" انتهى .
وينظر "تفسير الرازي" (15/365) ، "تفسير النيسابوري" (7/196) .
وعلى هذا ؛ فمعنى (أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) أي : أتقن ، وهذا لا ينافي أن يكون من الخلق من هو قبيح
الصورة أو مشوه .
ويحتمل أن يكون المراد بذلك حسن الصورة وجمالها .
ولا يعترض على ذلك بوجود بعض المخلوقات المشوهة أو القبيحة ، لأنها لم تخرج عن
الحسن ، ولكن الحسن والجمال درجات ، فهذه المخلوقات هي أحسن وأجمل مما دونها وأقل
منها جمالا ، إلا أن جمالها لا يظهر لأننا نقارنها بما هو أجمل منها ، ولو قورنت
بما دونها في الجمال لظهر جمالها .
ثانيا :
أما كون الخلق يمكن أن يكون أفضل صورة مما هو عليه ، فالله تعالى على كل شيء قدير ،
وقد خلق الملائكة في أحسن خلق وأكمله وأجمله ، فلا يقال : لماذا لم يخلق الله الخلق
كله على هيئة الملائكة ؟ لأن هذا سوف يتنافى مع حكمة الله تعالى ، فقد خلق الله
تعالى كل شيء من المخلوقات لحكمة معينة ولتحقيق مصالح معينة أرادها الله تعالى ،
فخلق كل شيء من المخلوقات على الصورة التي تحقق تلك الحكمة والمصالح وأحكم خلقه
وأحسنه ، فلا مطمع أن يكون الخلق أحسن من هذا .
حتى الأمراض والكوارث والشر الذي يفعله الإنسان أو غيره من المخلوقات .. فكل ذلك
خلقه الله وأتقنه وأحكمه .
فقد خلق الله المرض ليبتلي المريض هل يصبر ويرضى أم لا ؟
وليبتلي السليم الصحيح : هل يشكر نعمة الله عليه أم لا ؟
قال تعالى : ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ
رَبُّكَ بَصِيرًا ) الفرقان/ 20 .
" فامتحن الأغنياء بالفقراء ، والفقراء بالأغنياء ، وامتحن الضعفاء بالأقوياء ،
والأقوياء بالضعفاء، والسادة بالأتباع ، والأتباع بالسادة ، وامتحن المالك بمملوكه
، ومملوكه به ، وامتحن الرجل بامرأته ، وامرأته به ، وامتحن الرجال بالنساء ،
والنساء بالرجال ، والمؤمنين بالكفار، والكفار بالمؤمنين " انتهى من "إغاثة اللهفان"
(2 /161) .
وقال السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى : (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى
* قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) طه/ 49، 50 .
" أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، الدال على حسن
صنعة من خلقه، من كبر الجسم وصغره وتوسطه، وجميع صفاته، ثُمَّ هَدَى كل مخلوق إلى
ما خلقه له، وهذه الهداية العامة المشاهدة في جميع المخلوقات فكل مخلوق، تجده يسعى
لما خلق له من المنافع، وفي دفع المضار عنه، حتى إن الله تعالى أعطى الحيوان البهيم
من العقل، ما يتمكن به على ذلك.
وهذا كقوله تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) فالذي خلق المخلوقات،
وأعطاها خلقها الحسن، الذي لا تقترح العقول فوق حسنه، وهداها لمصالحها، هو الرب على
الحقيقة، فإنكاره إنكار لأعظم الأشياء وجودا، وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب " انتهى من
"تفسير السعدي" (ص 507).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" فَالْمَخْلُوقُ بِاعْتِبَارِ الْحِكْمَةِ الَّتِي خُلِقَ لِأَجْلِهَا خَيْرٌ
وَحِكْمَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَرٌّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَذَلِكَ أَمْرٌ عَارِضٌ
جُزْئِيٌّ، لَيْسَ شَرًّا مَحْضًا، بَلْ الشَّرُّ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الْخَيْرُ
الْأَرْجَحُ هُوَ خَيْرٌ مِنْ الْفَاعِلِ الْحَكِيمِ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا لِمَنْ
قَامَ بِهِ.
وَظَنُّ الظَّانِّ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْمَطْلُوبَةَ التَّامَّةَ قَدْ تَحْصُلُ مَعَ
عَدَمِهِ ، إنَّمَا يَقُولُهُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ ،
وَارْتِبَاطِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ، فَإِنَّ الْخَالِقَ إذَا خَلَقَ الشَّيْءَ ،
فَلَا بُدَّ مِنْ خَلْقِ لَوَازِمِهِ، فَإِنَّ وُجُودَ الْمَلْزُومِ بِدُونِ وُجُودِ
اللَّازِمِ مُمْتَنِعٌ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (8/ 512) .
وقال أيضا :
" وَاللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ خَالِقًا لِكُلِّ شَيْءٍ ، فَإِنَّهُ خَلَقَ
الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الَّتِي
بِاعْتِبَارِهَا كَانَ فِعْلُهُ حَسَنًا مُتْقَنًا، كَمَا قَالَ: (الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) وَقَالَ: (صُنْعَ
اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) ؛ فَلِهَذَا لَا يُضَافُ إِلَيْهِ الشَّرُّ
مُفْرَدًا، بَلْ إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي الْعُمُومِ، وَإِمَّا أَنْ يُضَافَ إِلَى
السَّبَبِ، وَإِمَّا أَنْ يُحْذَفَ فَاعِلُهُ " .
انتهى من "منهاج السنة النبوية" (3/ 142) .
وينظر للاستزادة جواب السؤال رقم : (160890).
والله تعالى أعلم .