الإجابة
الحمد لله
قال الله عز وجل : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ
اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) النحل/ 70 .
وقال تعالى : ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ) الحج/ 5 .
قال الطبري رحمه الله :
" يقول تعالى ذكره : والله خلقكم أيها الناس ، وأوجدكم ، ولم تكونوا شيئا، لا
الآلهة التي تعبدون من دونه، فاعبدوا الذي خلقكم دون غيره ، ثم يقبضكم .
ومنكم من يهرم ، فيصير إلى أرذل العمر، وهو أردؤه ، وإنما نردّه إلى أرذل العمر
ليعود جاهلا ، كما كان في حال طفولته وصباه ، يقول: لئلا يعلم شيئا بعد علم كان
يعلمه في شبابه ، فذهب ذلك بالكِبَر ، ونُسي ، فلا يعلم منه شيئا، وانسلخ من عقله ،
فصار من بعد عقل كان له ، لا يعقل شيئا " انتهى مختصرا .
وقال السعدي رحمه الله :
" يخبر تعالى أنه الذي خلق العباد ونقلهم في الخِلقة، طورا بعد طور، ثم بعد أن
يستكملوا آجالهم يتوفاهم ، ومنهم من يُعَمِّره حتى يُرَدّ إِلَى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ، أي: أخسه ، الذي يبلغ به الإنسان إلى ضعف القوى الظاهرة والباطنة، حتى
العقل الذي هو جوهر الإنسان ، يزيد ضعفه ، حتى إنه ينسى ما كان يعلمه، ويصير عقله
كعقل الطفل " انتهى من " تفسير السعدي " (ص 444) .
وقال الزجاج رحمه الله:
" المعنى: أن منكم من يَكْبُرُ ، حتى يذهب عقله خَرَفاً، فيصير بعد أن كان عالماً
جاهلاً، ليريَكم من قدرته ، كما قَدِر على إِماتته وإِحيائه ، أنه قادر على نقله من
العلم إِلى الجهل " .
انتهى من " زاد المسير "(2/ 571).
فالمقصود : أن الله تعالى ينقل العباد من جهل إلى علم، ثم من علم إلى جهل، ومن ضعف إلى قوة، ثم من قوة إلى ضعف .
والناس يتفاوتون في مقدار ذلك الجهل الذي ينقلون إليه ، فمنهم من يُطْبِق عليه الخرف ، فلا يعلم شيئا ، مطلقا ، ومنهم من لا يكاد يعلم شيئا ، ومنهم من يعلم الشيء بعد الشيء ، إلا أن الجهل وعدم العلم هو الغالب عليه .
والمراد بقوله تعالى : (لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا): بيان غلبة
الجهل من بعد العلم ، لا انتفاء العلم بالكلية بالنسبة لكل من أدرك هذه المرحلة ،
فنفى العلم للمبالغة .
ولذلك قال : (وَمِنْكُمْ) إشارة إلى أنه ليس كل من كبر وشاخ ، يُردّ إلى أرذل العمر
، بل من هؤلاء من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا ، ومنهم من يكبر
فيحفظ الله عليه عقله وسمعه وبصره .
قال ابن جزي رحمه الله :
"وليس المراد نفي العلم بالكلية ، بل ذلك عبارة عن قلة العلم ، لغلبة النسيان" .
انتهى من " تفسير ابن جزي " (1/ 431) .
وقال الرازي رحمه الله :
" فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ: لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ، مَعَ
أَنَّهُ يَعْلَمُ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ كَالطِّفْلِ؟
قُلْنَا : الْمُرَادُ أَنَّهُ يَزُولُ عَقْلُهُ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ
شَيْئًا، لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ يُذْكَرُ فِي النَّفْيِ لِأَجْلِ
الْمُبَالَغَةِ " انتهى من " تفسير الرازي " (23/ 205) .
وقال ابن عاشور رحمه الله :
" وَلِذَلِكَ مَرَاتِبُ فِي ضَعْفِ الْعَقْلِ ، بِحَسَبِ تَوَغُّلِهِ فِي أَرْذَلِ
الْعُمُرِ، تَبْلُغُ إِلَى مَرْتَبَةِ انْعِدَامِ قَبُولِهِ لِعِلْمٍ جَدِيدٍ،
وَقَبْلَهَا مَرَاتِبُ مِنَ الضَّعْفِ مُتَفَاوِتَةٌ، كَمَرْتَبَةِ نِسْيَانِ
الْأَشْيَاءِ، وَمَرْتَبَةِ الِاخْتِلَاطِ بَيْنَ الْمَعْلُومَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ
" انتهى من " التحرير والتنوير " (17/ 202) .