ﰡ
نعم الله على قريش
لم يترك الحق سبحانه وتعالى وسيلة إقناعية أو تربوية أو ترغيبية أو تهديدية إلا أقامها وأداها لقبيلة قريش في صدر الإسلام، من أجل حملهم على الانضمام لراية الإسلام، وإعلان عقيدة توحيد الله تعالى، وترك الشرك والوثنية وعادات الجاهلية القبيحة، ومن هذه الوسائل تذكيرهم بما أنعم الله تعالى عليهم، من تيسير الحصول على مكاسبهم وأرزاقهم وتجاراتهم الرابحة، لقطري الشام واليمن، في قوافلهم الشتوية والصيفية، وذلك في سورة قريش المكية بلا خلاف:
[سورة قريش (١٠٦) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)«١» «٢» [قريش: ١٠٦/ ١- ٤].
أخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فضّل الله قريشا بسبع خصال أو خلال: أني منهم، وأن النبوة فيهم، والحجابة والسقاية فيهم، وأن الله نصرهم على الفيل، وأنهم عبدوا الله عز وجل عشر سنين لا يعبده غيرهم، وأن الله أنزل فيهم سورة من القرآن، ثم تلا رسول الله
(٢) بدل من إيلاف قريش. ورحلة: مفعول به لإيلافهم، على تقدير أن يكون من الألفة، ومنصوب بنزع الخافض إذا كان من المؤالفة.
وهو حديث غريب، كما قال ابن كثير.
هذه السورة نزلت إذن في بيان خصال قريش، وتذكيرهم بنعم الله عليهم.
ومعناها: لتعبد قريش (وهم ولد النضر بن كنانة) الله تعالى، شكرا له وإعظاما، لأجل إيلافهم (جعلهم يألفون) رحلتين في العام، واحدة في الشتاء إلى اليمن، لجلب العطور والبهارات الآتية من الهند والخليج، وهي بلاد حارة، وواحدة إلى الشام في الصيف، لأنها بلاد باردة، لجلب الحبوب الزراعية. وكانت قريش في مكة تعيش بالتجارة. ولولا هاتان الرحلتان لم يتمكنوا من المقام بها، ولولا الأمن بجوار البيت الحرام، لم يقدروا على التصرف، وكانوا لا يغار عليهم، لأن العرب يقولون: قريش أهل بيت الله عز وجل وجيرانه.
وكل هذا الاحترام والإجلال لقريش أهل مكة إنما كان من الله عزّ وجلّ، الذي هيّأه ويسّره لهم بفضل البيت الحرام، فكان عليهم الإقرار بهذه النعمة، وإفراد الله بالعبادة والتعظيم.
كما أن النّعم الأخرى المذكورة في الحديث المتقدّم، ومن أهمها نعمة صدّ أصحاب الفيل عن هدم الكعبة، تستوجب الإقرار بها وعبادة الله تعالى المنعم. فعليهم عبادة ربّ البيت الحرام الذي كان سببا في تحقيق مجدهم وزعامتهم وأمنهم واستقرارهم. والله وحده هو المستحق للعبادة، لكونه ربّ هذا البيت، على الرغم من أوثانهم التي كانوا يعظّمونها حول الكعبة، فميّز الله تعالى نفسه عنها، وبالبيت تشرّفوا على سائر العرب، وهم يدركون هذا ويقرّون به. وكانت الإشارة إلى (البيت الحرام) في السورة لإفادة التعظيم.
ويلاحظ كما ذكر الرازي أن الإنعام على قريش بصدّ أصحاب الفيل إنما هو لدفع الضرر عنهم، ودفع الضرر عن النفس واجب، والإنعام عليهم بالبيت الحرام لجلب
(٣).
والعبادة: هي التذلّل والخضوع للمعبود على غاية ما يكون، وهي تحقّق معنى العبودية. ثم ذكر الله تعالى نعما أخرى على قريش، صادرة من الله تعالى وهي:
- أنه ربّ البيت هو الذي أطعمهم من جوع، ووسّع لهم في الرزق، ويسّر لهم سبيله، بسبب هاتين الرّحلتين، فخلّصهم من جوع شديد كانوا فيه قبلهما.
- وتفضّل عليهم بالأمن والاستقرار، فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له، ولا يعبدوا من دونه صنما ولا وثنا، ولا شيئا آخر مما يعظّمونه.
قال ابن كثير: ولهذا من استجاب لهذا الأمر، جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة، ومن عصاه سلبهما منه، كما قال الله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ [النّحل: ١٦/ ١١٢- ١١٣].
وكانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها بعضا (يسترقونهم)، فأمنت قريش لمكان الحرم، كما آمنهم الله من خوف الحبشة مع الفيل، قال الله تعالى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: ٢٩/ ٦٧].
فمن تأمين الله لقريش كما يبدو في الآية: أنه آمنهم من خوف التّخطف في بلدهم ومسايرهم، والذي كان ظاهرة شائعة في القبائل العربية الأخرى المجاورة. ومن التأمينات الإلهية لهم أيضا: تأمينهم من خوف الجذام والطاعون، فلا يصيبهم في بلدهم، فضلا من الله تعالى ونعمة.