﴿ بسم الله ﴾ ذي الجلال والإكرام ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ بالإيجاد بعد الإعدام ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أولياءه بتمام الإنعام.
ﰡ
﴿ ألهاكم التكاثر ﴾ أي : شغلكم المباهاة والمفاخرة والمكاثرة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربكم، وما ينجيكم من سخطه.
لن يخلص العام خليل عشراً | ذاق الضماد أو يزور القبرا |
فإن قيل : شأن الزائر أن ينصرف قريباً، والأموات ملازمون للقبور، فكيف يقال : إنه زار القبر ؟ وأيضاً حتى زرتم إخبار عن الماضي، فكيف يحمل على المستقبل ؟
أجيب عن الأول : بأن سكان القبور لا بد أن ينصرفوا عنها، فإن كل آت قريب، وعن الثاني : لتحققه عبر عنه بالماضي، كقوله تعالى :﴿ أتى أمر الله ﴾ [ النحل : ١٠ ]، وقال أبو مسلم : إنّ الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعبيراً للكفار، وهم في ذلك الوقت قد تقدّمت منهم زيارة القبور. وقال مقاتل والكلبي : نزلت في حيين من قريش : بني عبد مناف وبني سهم، تفاخروا أيهم أكثر عدداً، فكثرهم بنو عبد مناف، وقالت بنو سهم : إنّ البغي أهلكنا في الجاهلية، فعادّونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات ؛ لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عدداً، والمعنى : أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم، ثم صرتم إلى المقابر، فتكاثرتم بالأموات، عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكماً بهم، وإنما حذف الملهى عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة.
وقال قتادة : في اليهود، قالوا : نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً، أو أنهم كانوا يزورون المقابر فيقولون : هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان، عند تفاخرهم. والمعنى : ألهاكم ذلك وهو مما لا يعينكم، ولا يجدي عنكم في دنياكم وآخرتكم عما يعينكم من أمر الدين الذي هو أهمّ وأعنى من كل مهمّ من المقابر. والمقابر : جمع مقبرة، بفتح الباء وضمها. ويسمى سعيد المقبري ؛ لأنه كان يسكن المقابر. قال القرطبي : لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة، واعترضه ابن عادل بأنّ الله تعالى قال في سورة أخرى :﴿ ثم أماته فأقبره ﴾ [ عبس : ٢١ ]، وهذا ممنوع، فإنه قال المقابر، فلفظ هذه الآية غير لفظ تلك. وزيارة القبور من أعظم الأدوية للقلب القاسي ؛ لأنها تذكر الموت والآخرة، وذلك يحمل على قصر الأمل، والزهد في الدنيا، وترك الرغبة فيها، قال صلى الله عليه وسلم :«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة ». وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن زوّارات القبور ». فتكره لهنّ لقلة صبرهنّ، وكثرة جزعهنّ، نعم زيارة النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة لهنّ، ويلحق به بقية الأنبياء والعلماء، وينبغي لمن زار القبور أن يتأدّب بآدابها، ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها الطواف عليها فقط، فإنّ هذه حالة يشاركه فيها البهائم ؛ بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى، وإصلاح فساد قلبه، ونفع الميت بما يتلوه عنده من القرآن والدعاء، ويتجنب الجلوس عليها، ويسلم إذا دخل المقابر فيقول :«السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ». وإذا وصل على قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضاً، وأتاه من قبل وجهه ؛ لأنه في زيارته كمخاطبه حياً، ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، ويتأمّل حال من مضى من إخوانه كيف انقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، ومجيء التراب على محاسنهم ووجوههم، وافترقت في التراب أجزاؤهم، وترمل من بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتم أولادهم، وأنه لا بدّ صائر إلى مصيرهم، وأنّ حاله كحالهم، ومآله كمآلهم.
وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال :«انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية، قال :" يقول ابن آدم : مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدّقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت ». وعن مالك قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان، ويبقى واحد : يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله ». وقرأ ( ألهاكم ) حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح، وبين اللفظين، والباقون بالفتح.
وقوله تعالى :﴿ ثم كلا سوف تعلمون ﴾ تكرير للتأكيد، وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأوّل وأشدّ، كما يقال للمنصوح : أقول لك : لا تفعل، والمعنى سوف تعلمون، والخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله تعالى، وإن هذا التنبيه نصيحة لكم، ورحمة عليكم.
﴿ لترونّ الجحيم ﴾ بعيون قلوبكم، فإنّ علم اليقين يريك الجحيم بعين فؤادك. وقرأ ( لترون ) ابن عامر والكسائي بضم التاء، والباقون بالفتح.
وإذا قيل : إنّ هذا السؤال للكافر، فقيل : هو في موقف الحساب، وقيل : بعد دخول النار، يقال لهم : إنما حل بكم هذا العذاب لاشتغالكم في الدنيا بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم من هذه النار، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة.