تفسير سورة قريش

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة قريش من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة القريش
مكية، وهي أربع آيات.

﴿ لإيلاف قريش ١ ﴾ قرأ ابن عامر ( لإلآف ) بغير ياء بعد الهمزة، وأبو جعفر ( ليلاف ) بغير همزة، والباقون بهمزة وياء بعدها، واللام للتعجب عند الكسائي والأخفش، متعلق بمحذوف. أي اعجبوا لإيلاف قريش. وقال الزجاج : هي مردودة إلى ما بعدها، تقديره : فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف قريش، والفاء للجزاء ؛ لأن الكلام معنى الشرط ؛ إذ المعنى أن نعم الله عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوا لسائر نعمته فليعبدوا لإيلاف قريش، لكن يرد عليه أن ما في حيز الجزاء لا يعمل قبله، فالأولى أن يقال حينئذ : الفاء زائدة، وجاز أن يكون متعلقا بما قبله في السورة السابقة كالتضمين في الشعر، وهو أن يتعلق معنى البيت التالي بالذي قبله تعلقا لا يصلح إلا به، والمعنى أنه أهلك أصحاب الفيل وجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف. أي ليتسامع الناس ذلك الإهلاك لأجلهم فيحرموهم فضل إحرام، حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتيهم، فلا يجترئ عليهم أحد، ولأجل هذا التعلق المعنوي عد بعض الناس سورة الفيل وهذه السورة سورة واحدة، منهم أبي بن كعب، لا فصل بينهما في مصحفه، فاللام على هذا متعلق بجعل. وقريش هم ولد النضر بن كنانة، فمن ولده النضر فهو قريشي، ومن لم يلده فليس بقريشي. سموا قريشا من القرش والتقرش وهو التكسب والجمع. يقال : فلان يقرش لعياله ويتقرش أي يكتسب، وهم كانوا تجارا حراصا على جمع المال والأفضال. وسأل معاوية عبد الله بن عباس : لم سميت قريشا ؟ قال : لدابة في البحر من أعظم الدواب يقال لها : القرش، لا تمر بشيء من الغث والسمين إلا أكلته، وهي تأكل ولا تؤكل، تعلو ولا تعلى. وفي القاموس : قرشه أي قطعه وجمعه من ها هنا وها هنا، وضم بعضه إلى بعض، ومنه قريش لتجمعهم إلى الحرم، ولأنهم كانوا يتقرشون البياعات فيشترونها، ولأن نضر بن كنانة اجتمع في ثوبه يوما، فقالوا : تقرش، أو لأنه جاء إلى قومه فقالوا : كأنه جمل قريش، أي شديدا، أو لأنهم كانوا يقرشون الحاج فيسدون خلتها، أو سميت القرش وهي دابة بحرية يخافها دواب البحر كلها.
فائدة : عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم " ١ رواه البغوي. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :" الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم وكافرهم " ٢ متفق عليه. وعن جابر مرفوعا " الناس تبع لقريش في الخير والشر " رواه مسلم. قلت : لعل المراد من الحديث الأول قوة استعداد قريش، ومن ثم ترى أفضل الصحابة وأكثر أولياء منهم وبالآخرين أنه تعالى لما بعث خاتم النبيين منهم فكأنهم هم المخاطبون أولاً بالشرائع والإيمان، وسائر الناس تبع لهم. قال الله تعالى :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم ﴾٣ وقال الله تعالى :﴿ وأنذر عشيرتك الأقربين ﴾٤ فمن آمن منهم سن سنة حسنة باتباع الرسول، فلهم أجرهم وأجر من تبعهم، ولذا صاروا أفضل الناس بعد الأنبياء، ومن كفر منهم وسلك طريق مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في بدء الأمر ثم مات على ذلك فعليه إثم من كفر بعدهم، كما أن قابيل أول من قتل يقسم أهل النار بضعف عذاب جهنم قسمه صحابا، أخرجه البيهقي عن ابن عمر، وقد مر في سورة ( والشمس ) في حديث أنه أشقى الناس، وعن ابن عمر مرفوعا قال :" لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان " ٥ متفق عليه، وعن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين "، رواه البخاري. قلت : المراد بالأمر الخلافة، والغرض من حديث ابن عمر وجواب استخلاف قريش وليس الغرض منه الإخبار، والغرض من حديث معاوية الدعاء بالسوء على من بنى من خليفة قريش عادل وعن عادل. وعن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من يرد هوان قريش أهانه الله " ٦ رواه الترمذي، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فضل الله قريشا بسبع خصال لم يعطها أحدا قبلهم ولا يعيطها أحدا بعدهم : فضل الله قريشا أني منهم، وأن النبوة فيهم، وأن الحجامة فيهم، وأن السقاية فيهم، ونصرهم على الفيل، وعبدوا الله عشر سنين لم يعبده غيرهم، وأنزل الله فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم ( لئلاف قريش ) "، رواه الحاكم والطبراني والبخاري في التاريخ. وعن الزبير بن العوام مثله، غير أنه لم يذكر " أني منهم " ؛ بل ذكر أن فيهم النبوة والخلافة والحجابة والسقاية، والثلاثة : النصر على الفيل، وعبدوا الله عشر سنين، ونزلت فيهم ( لئلاف قريش )، رواه الطبراني في الأوسط.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (٢٢٧٦)، وأخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: ما جاء في فضل النبي صلى الله عليه وسلم (٣٦١٤)..
٢ أخرجه البخاري في أول كتاب: المناقب (٣٤٩٥)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: الناس تبع لقريش والخلافة في قريش (١٨١٨)..
٣ سورة إبراهيم، الآية: ٤..
٤ سورة الشعراء، الآية: ٢١٤..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: مناقب قريش (٣٥٠١)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: الناس تبع لقريش والخلافة في قريش (١٨٢٠)..
٦ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: في فضل الأنصار وقريش (٣٩١٤)..
﴿ إيلافهم ﴾ بدل من الإيلاف الأول. اتفق غير أبي جعفر على أنها بياء بعد الهمزة في اللفظ دون الخط إلا عبد الوهاب بن فليح عن ابن كثير، فإنه قرأ ( إلفهم ) ساكنة اللام. وإطلاق الإيلاف أولاً ثم إبدال المقيد عنه بقوله ﴿ رحلة الشتاء والصيف ﴾ للتفخيم، فإنه كان من أعظم نعم الله عليهم، وذاك لأن الحرم كان واديا جدبا لا زرع فيه ولا ضرع، فلولا الرحلتان لهم بالتجارة لم يكن لهم مقام ولا معاش، ولولا أن جعل الله مكة حرما محترما بحيث يكون الناس ويتعرضون لهم بالسوء قائلين : قريش سكان حرم الله ولاة بيته، لم يقدروا على الرحلتين، فكانوا يرتحلون رحلة في الشتاء إلى اليمن ؛ لأنها أدفأ، وفي الصيف إلى الشام ؛ لأنها برد، فيتمارون ويتجرون ويربحون. قال عطاء عن ابن عباس : إنهم كانوا في ضر ومجاعة حتى جمعهم هاشم على الرحلتين، وكانوا يقسمون ربحهم بين الفقير والغني حتى كان فقيرهم كغنيهم. قال الكلبي : كان أول من حل السمراء من الشام ورحل إليها الإبل هاشم بن عبد مناف. قال البغوي فشق عليهم الاختلاف إلى اليمن والشام فأخصبت بتبالة وحرش من اليمن فحملوا الطعام إلى مكة أهل الساحل من البحر على السفن، وأهل البر على الإبل والحمير، فألقى أهل الساحل بجدة وأهل البر بالمحصب، وأخصبت أهل الشام، فحملا الطعام إلى مكة، فألقوا بالأبطح فامتاروا من قريب، وكفاهم الله مؤونة الرحلتين، وأمرهم بعبادة رب هذا البيت فقال :
﴿ فليعبدوا رب هذا البيت ﴾
﴿ فليعبدوا ﴾ إن كان لام لإيلاف متعلقا بما قبله، أو للتعجب، فالفاء للعطف والسببية، وإن كان متعلقا بما بعده فهي زائدة، أو في جواب شرط مقدر كما مر. ﴿ رب هذا البيت ﴾ أي الكعبة، يعني الله سبحانه ذكر الله تعالى بصفة ربوبية البيت، ولكون البيت باعثا لأمنهم.
﴿ الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ٤ ﴾ خوف أصحاب الفيل، أو التخطف ببلدهم، أو في السفر بجعلهم من أصحاب الحرم، وقال الضحاك والربيع والسفيان : أمنهم من خوف الجذام، فلا يصيب ببلدهم ذلك كله بدعاء إبراهيم عليه السلام ﴿ رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات ﴾١ عن أبي الحسن القزويني موقوفا إن خاف من عدو أو غيره فقراءة﴿ لإيلاف قريش ﴾ أمان عن كل سوء ذكره الجزري في الحصن الحصين وقال : مجرب، قلت : وقد أمرني شيخي وإمامي قدس الله سره السامي بقراءته في المخاوف لدفع كل سوء وبلاء، وقال : مجرب، قلت : وقد جربته كثيرا. والله تعالى أعلم.
١ سورة البقرة، الآية: ١٢٦..
Icon