تفسير سورة التكاثر

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة التكاثر من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة التكاثر
مكية، وهي ثماني آيات.

﴿ ألهاكم ﴾ أي ألهكم في اللهو، وهو الباطل من الأمور، وما لا يعد فائدة معتبرة، وشغلكم عن طاعة الله، وما ينجيكم من سخطه، ﴿ التَّكاثر ﴾ التباهي والتفاخر بكثرة المال والجاه والعدد.
﴿ حتى زرتم المقابر ٢ ﴾ يعني حتى متم ودفنتم بالمقابر. أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ألهاكم التكاثر عن الطاعة حتى زرتم المقابر، حتى يأتيكم الموت ". قال قتادة : كانت اليهود يتفاخرون بكثرتهم، ويقولون نحن أكثر من بني فلان، شغلهم ذلك حتى ماتوا، فنزلت هذه الآية فيهم، فعلى هذا حتى للغاية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن بريدة قال : نزلت الآية في قبيلتين من قبائل الأنصار : بني حارثة وبني الحارث، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما : فيكم مثل فلان وفلان، وقال آخرون مثل ذلك، تفاخروا ثم قالوا : انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول : فيكم مثل فلان ومثل فلان، ويشيرون إلى القبور. وقال الكلبي : نزلت في حيين من قريش بني عبد مناف بن قصي، وبني سهم، قال كل واحد : نحن أكثر سيدا، وأعز عزيزا، وأكثر عدداً، فكثرهم بنو عبد مناف، ثم قالوا : نعد موتانا، حتى زاروا القبور فعدوهم، فقالوا : هذا القبر فلان، وهذا قبر فلان، فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات ؛ لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عددا، فأنزل الله هذه الآية، وعلى هاتين الروايتين معنى قوله :﴿ حتى زرتم المقابر ﴾ حتى عددتم الأموات ؛ لأجل التكاثر بالأموات، بعد ما استوعبتم عدد الأحياء، فعبر عن انتقالهم إلى ذكر الأموات بزيارة القبور مجازا، أو يحمل على زيارة القبور حقيقة، حيث انطلقوا إلى المقابر بعد القبور، حتى هذه للسببية. عن عبد الله بن الشخير قال : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية ﴿ ألهاكم التكاثر ﴾، قال :" يقول ابن آدم : ما لي ما لي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت " ١ رواه البغوي، وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وما له وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله " ٢ رواه البخاري، وعن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفتخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد " ٣ رواه مسلم، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :" لينتهين أقوام يفخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم من جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه. إن الله قد أذهب عنكم عيية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي الناس، كلهم بنو آدم، وآدم من تراب " ٤ رواه الترمذي وأبو داود. عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنسابكم هذه ليست بمسبة على أحد، كلكم بنو آدم، طف الصاع بالصاع لم تملوه، ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين وتقوى، كفى بالرجل أن يكون بذيا فاحشا بخيلا " رواه أحمد والبيهقي، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي : ألا إني جعلت نسبا، وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا : فلان ابن فلان خير من فلان ابن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم، أين المتقون " رواه الطبراني في الأوسط.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق (٢٩٥٨)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: سكرات الموت (٦٥١٤)..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (٢٨٦٥)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: فضل الشام واليمن (٣٩٦٤)، وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في التفاخر بالأحساب (٥١٠٧)..
﴿ كلاّ ﴾ ردع عن التكاثر ﴿ سوف تعلمون ﴾ حذف مفعوله لدلالة السياق، أي سوف تعلمون سوء عاقبة تفاخركم وتكاثركم حين تعذبون عليه.
﴿ ثم كلاّ سوف تعلمون ٤ ﴾ تكرير لتأكيد الوعيد، أو تنصيص بوعيد آخر، وفي ( ثم ) دلالة على أن الثاني أبلغ من الأول. قيل : الأول عند الموت أو في القبر، والثاني بعد البعث. أخرج ابن جرير عن علي قال : كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت ( ألهاكم التكاثر ) إلى ( كلاّ سوف تعلمون ) في عذاب القبر.
﴿ كلاّ ﴾ تأكيد للردع بعد تأكيد ﴿ لو تعلمون ﴾ ما بين أيديكم ﴿ علم اليقين ﴾ أي علماً كعلم الأمر المتقين الموجود عندكم، وجواب لو محذوف لتفخيمه، يعني لشغلكم ذلك عن غيره، أو لما تكاثرتم، قال قتادة : كنا نحدث أن علم اليقين أن يعلم أن الله باعثه بعد الموت. قلت : يعني علماً بالغيب حاصلا بالاستدلال، ولا يجوز أن يكون.
﴿ لترونّ الجحيم ٦ ﴾ جوابا للشرط ؛ لأنه محقق الوقوع ؛ بل هو جواب قسم محذوف أكد به الوعيد، وأوعد ما أنذرهم به بعد إبهامه تفخيما لشأنه. قلت : وجاز أن يكون لو مجازا عن إذا تعلمون علم اليقين، وذلك عند الموت، لترون الجحيم، ولا ينفعكم علمكم حينئذ لفوت وقت التدارك. قرأ ابن عامر والكسائي لترون بضم التاء على البناء للمجهول من أريت الشيء، والباقون بفتح التاء والمراد بالرؤية ها هنا المعرفة والعلم، وجاز أن يكون الرؤية بالأبصار في القبور، فإن الكافرين يعرضون على النار في القبور غدواً وعشيا كما ذكرنا في تفسير قوله تعالى :﴿ وما هم عنها بغائبين ١٦ ﴾١.
١ سورة الانفطار، الآية: ١٦..
﴿ ثم لترونَّها ﴾ بفتح التاء بلا خلاف، يعني ثم لترون الجحيم بعد النشور ﴿ عين اليقين ﴾ منصوب على المصدرية عن غير لفظ الفعل، فإن رأى وعاين بمعنى واحد، وبه اندفع احتمال أن يكون الرؤية ها هنا بمعنى العلم، والمعنى لترون رويته موجبة لليقين، ومن ها هنا سمى عين اليقين علماً حاصلا بالرؤية والمشاهدة، ولا شك أن الرؤية أقوى من أسباب العلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ليس الخبر كالمعاينة " أخرجه الخطيب عن أبي هريرة، والطبراني عن أنس، بسند حسن، وروى أحمد والطبراني بسند صحيح، والحاكم عن ابن عباس، هذا وفي زيادة أن الله تعالى أخبر موسى بما صنع قومه في العجل، فلم يلق الألواح، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت. وقيل : عين اليقين صفة لمصدر محذوف، أي رؤية هي نفس اليقين مبالغة.
﴿ ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم ٨ ﴾ يعني لم تركتم شكر النعم وكفرتم بها. قال البغوي : فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه، قال مقاتل : كان كفار مكة في الدنيا في الخير والنعمة، ولم يشكروا رب النعم، حيث عبدوا غيره، ثم يعذبون على ترك الشكر، هذا قول الحسن، وعن ابن مسعود رفعه، انتهى. والخطاب في الآية مخصوص بالكفار الذين ألهاهم التكاثر، وجاز أن يكون قوله تعالى :﴿ لترونَّ الجحيم ٦ ﴾ إلى آخر السورة خطابا عاما للناس أجمعين، كقوله تعالى :﴿ وإن منكم إلا واردها ﴾١ الآية، وقد مر في الحديث أن المؤمن يرى في القبر أولاً مقعداً من النار الذي أبدل منها مقعداً في الجنة، ليزداد شكرا.
فائدة : السؤال عن النعيم وإن كان بدلالة سياق الآية وأحد تأويلها مختصا بأهل التكاثر ؛ لكن ثبت بما تواتر من الأحاديث أن السؤال عام، يسأل الكفار والمؤمنون. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال :" الأمن والصحة "، وكذا عن ابن عباس في الآية قال : صحة الأبدان والأسماع والأبصار، يسأل الله العباد فيما استعملوها. وأخرج الفريابي وأبو نعيم عن مجاهد في هذه الآية قال : كل شيء من لذة الدنيا. وعبد الرزاق، عن قتادة في هذه الآية أنه قال : إن الله سائل كل نعمة فيما أنعم عليه. وأخرج أحمد في الزهد عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال :" ناس من أمتي يعقدون الثمر العسل بالنقي فيأكلونه ". وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية قال الناس : يا رسول الله، عن أي النعيم نسأل، وإنما هو الأسودان، والعدو حاضر، وسيوفنا على عواتقنا ؟ قال :" أما إن ذلك سيكون " ٢. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله، وأي نعيم نحن فيه، وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير، فأوحى إليهم " أليس تتخذون النعال، وتشربون الماء البارد، فهذا من النعيم ". وعن علي رضي الله عنه قال : من أكل خبز البر، وكان له ظل، وشرب الماء الفرات، فذلك من النعيم الذي يسأل عنه. وروى الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة في حديث مسيره صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر إلى بيت أبي الهيثم وأكلهم الرطب واللحم وشربهم الماء، قوله صلى الله عليه وسلم :" إن هذا هو النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة "، فلما كبر على أصحابه قال : إذا أصبتم مثل هذا، وخبزتم بأيديكم، فقولوا : بسم الله، وعلى بركة الله، وإذا شبعتم فقولوا : الحمد لله الذي هو أشبعنا، وأروانا، أنعم علينا وأفضل، فإن هذا "، وعن ابن عباس هذه القصة ونحوه. وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" تناصحوا في العلم، ولا يكتم بعضكم بعضا، فإنه خيانة الرجل في علمه أشد من خيانة في ماله، وإن الله يسألكم عنه "، رواه الطبراني والأصبهاني. وعن أبي الدرداء : أول ما يسأل عنه العبد : ما عملت فيما عملت ؟ رواه أحمد وابن المبارك. وعن أبي الدرداء : أول ما يسأل عنه العبد : ما علمت فيما علمت ؟ رواه أحمد وابن المبارك. وعن ابن عمر مرفوعا :" يسأل العبد عن جاهه، كما يسأل عن ماله " رواه الطبراني. وعن ابن عباس : ما من عبد يخطو خطوة إلا يسأل الله عنها، ما أراد بها، رواه أبو النعيم. وعن معاذ مرفوعا " إن المؤمن يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه، حتى كحل عينيه "، رواه أبو نعيم وابن أبي حاتم. عن الحسن مرفوعا " ما من عبد يخطب إلا الله سائله منها ماذا أراد بها " مرسل جيد الإسناد، رواه البيهقي. وكلمة ثم في الآية تدل على أن السؤال بعد رؤية الجحيم، قلت : وذلك لأجل أن السؤال يكون على الصراط، قال الله تعالى :﴿ وقفوهم إنهم مسئولون ٢٤ ﴾٣ وعن أبي هريرة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تزول قدما عبد عن الصراط حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن علمه فيما عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه " ٤ رواه مسلم، وروى الترمذي وابن مردويه ابن مسعود مثله.
١ سورة مريم، الآية: ٧١..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة ألهاكم التكاثر (٣٣٥٦)..
٣ سورة الصافات، الآية: ٢٤..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع..
Icon