ﰡ
[تفسير سورة التكاثر]
تَفْسِيرُ سُورَةِ" التَّكَاثُرِ" وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَهِيَ ثمان آيات بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ[سورة التكاثر (١٠٢): الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢)فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تعالى (ألهاكم التكاثر) أَلْهاكُمُ شغلكم. قال:
فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمِ مُغْيَلِ «١»
أَيْ شَغَلَكُمُ الْمُبَاهَاةُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْعَدَدِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، حَتَّى مِتُّمْ وَدُفِنْتُمْ فِي الْمَقَابِرِ. وَقِيلَ أَلْهاكُمُ: أَنْسَاكُمْ. التَّكاثُرُ أَيْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيِ التَّفَاخُرُ بِالْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ أَلْهَاكُمُ التَّشَاغُلُ بِالْمَعَاشِ وَالتِّجَارَةِ. يُقَالُ: لَهِيتُ عَنْ كَذَا (بِالْكَسْرِ) أَلْهَى لُهِيًّا وَلِهْيَانًا: إِذَا سَلَوْتُ عَنْهُ، وَتَرَكْتُ ذِكْرَهُ، وَأَضْرَبْتُ عَنْهُ. وَأَلْهَاهُ: أَيْ شَغَلَهُ. وَلَهَّاهُ بِهِ تَلْهِيَةً أَيْ عَلَّلَهُ. وَالتَّكَاثُرُ: الْمُكَاثَرَةُ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حِينَ قَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، وَبَنُو فُلَانٍ أَكْثَرُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ، أَلْهَاهُمْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتُوا ضُلَّالًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي فَخِذٍ مِنْ الْأَنْصَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي حَيَّيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ: بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَبَنِي سَهْمٍ، تَعَادُّوا وَتَكَاثَرُوا بِالسَّادَةِ وَالْأَشْرَافِ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ كُلُّ حَيٍّ مِنْهُمْ نَحْنُ أَكْثَرُ سَيِّدًا، وَأَعَزُّ عَزِيزًا، وَأَعْظَمُ نَفَرًا، وَأَكْثَرُ عَائِذًا، فَكَثَرَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ سَهْمًا. ثُمَّ تَكَاثَرُوا بِالْأَمْوَاتِ، فَكَثَرَتْهُمْ سَهْمٌ، فَنَزَلَتْ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ بأحيائكم فلم ترضوا
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
ويروى: (تمام محول)، أي قد أتى عليه الحول. و (المغيل): الذي تؤتى أمه وهي ترضعه.
أَرَى أَهْلَ الْقُصُورِ إِذَا أُمِيتُوا | بَنَوْا فَوْقَ الْمَقَابِرِ بِالصُّخُورِ |
أَبَوْا إِلَّا مُبَاهَاةً وَفَخْرًا | عَلَى الْفُقَرَاءِ حَتَّى فِي الْقُبُورِ |
لِكُلِّ أُنَاسٍ مَقْبَرٌ بِفِنَائِهِمْ | فَهُمْ يَنْقُصُونَ وَالْقُبُورُ تَزِيدُ «١» |
(٢). قال ابن قنينة في المعارف: أبو سعيد المقبري: اسمه كيسان روى عن عمر. وتوفى سنة مية. [..... ]
(٣). راجع ج ١٩ ص ٢١٧
فِي الْمَآرِبِ، وَحِرْصَهُمْ عَلَى نَيْلِ الْمَطَالِبِ، وَانْخِدَاعَهِمْ لِمُوَاتَاةِ الْأَسْبَابِ، وَرُكُونَهِمْ إِلَى الصِّحَّةِ وَالشَّبَابِ. وَلْيَعْلَمْ أَنَّ مَيْلَهُ إِلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ كَمَيْلِهِمْ، وَغَفْلَتَهِ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الْفَظِيعِ، وَالْهَلَاكِ السَّرِيعِ، كَغَفْلَتِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ صَائِرٌ إِلَى مَصِيرِهِمْ، وَلْيُحْضِرْ بِقَلْبِهِ ذِكْرَ مَنْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي أَغْرَاضِهِ، وَكَيْفَ تَهَدَّمَتْ رِجْلَاهُ. وَكَانَ يَتَلَذَّذُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا خُوِّلَهُ وَقَدْ سَالَتْ عَيْنَاهُ، وَيَصُولُ بِبَلَاغَةِ نُطْقِهِ وَقَدْ أَكَلَ الدُّودُ لِسَانَهُ، وَيَضْحَكُ لِمُوَاتَاةِ دَهْرِهِ وَقَدْ أَبْلَى التُّرَابُ أَسْنَانَهُ، وَلْيَتَحَقَّقْ أَنَّ حَالَهُ كَحَالِهِ، وَمَآلَهُ كَمَآلِهِ. وَعِنْدَ هَذَا التَّذَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ تَزُولُ عَنْهُ جَمِيعُ الْأَغْيَارِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَيُقْبِلُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ، فَيَزْهَدُ فِي دُنْيَاهُ، وَيُقْبِلُ عَلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ، وَيَلِينُ قَلْبُهُ، وتخشع جوارحه.
[سورة التكاثر (١٠٢): الآيات ٣ الى ٤]
كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤)
قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ وَالتَّمَامِ عَلَى هَذَا كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ أَيْ سَوْفَ تَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ هَذَا. (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ): وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَكْرَارُهُ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ وَالتَّغْلِيظِ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَا يَنْزِلُ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْقَبْرِ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ فِي الْآخِرَةِ إِذَا حَلَّ بِكُمُ الْعَذَابُ. فَالْأَوَّلُ فِي الْقَبْرِ، وَالثَّانِي فِي الْآخِرَةِ، فَالتَّكْرَارُ لِلْحَالَتَيْنِ. وَقِيلَ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ، أَنَّ مَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ حَقٌّ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ: عِنْدَ الْبَعْثِ أَنَّ مَا وَعَدْتُكُمْ بِهِ صِدْقٌ. وَرَوَى زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَهُ: كُنَّا نَشُكُّ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ يَعْنِي فِي الْقُبُورِ. وَقِيلَ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ
[سورة التكاثر (١٠٢): آية ٥]
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أَعَادَ كَلَّا وَهُوَ زَجْرٌ وَتَنْبِيهٌ، لِأَنَّهُ عَقَّبَ كُلَّ وَاحِدٍ بِشَيْءٍ آخَرَ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّكُمْ تَنْدَمُونَ، لَا تَفْعَلُوا، فَإِنَّكُمْ تَسْتَوْجِبُونَ الْعِقَابَ. وَإِضَافَةُ الْعِلْمِ إِلَى الْيَقِينِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ «١» [الواقعة: ٩٥]. وقيل: اليقين ها هنا: الْمَوْتُ، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الْبَعْثُ، لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ زَالَ الشَّكُّ، أَيْ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْبَعْثِ وَجَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، أَيْ لَوْ تَعْلَمُونَ الْيَوْمَ مِنَ الْبَعْثِ مَا تَعْلَمُونَهُ إِذَا جَاءَتْكُمْ نَفْخَةُ الصُّوَرِ، وَانْشَقَّتِ اللُّحُودُ عَنْ جُثَثِكُمْ، كَيْفَ يَكُونُ حَشْرُكُمْ؟ لَشَغَلَكُمْ ذَاكَ عَنِ التَّكَاثُرِ بِالدُّنْيَا. وَقِيلَ: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَيْ لَوْ «٢» قَدْ تَطَايَرَتِ الصُّحُفُ، فَشَقِيٌّ وَسَعِيدٌ.
(٢). كذا في نسخ الأصل.
[سورة التكاثر (١٠٢): الآيات ٦ الى ٧]
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) هَذَا وَعِيدٌ آخَرُ. وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْقَسَمِ، أَيْ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ فِي الْآخِرَةِ. وَالْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ وَجَبَتْ لَهُمُ النَّارُ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ، كَمَا قَالَ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «٢» [مريم: ٧١] فَهُيِّئَ لِلْكُفَّارِ دَارٌ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ مَمَرٌّ. وَفِي الصَّحِيحِ: (فَيَمُرُّ أَوَّلُهُمْ كَالْبَرْقِ، ثُمَّ كَالرِّيحِ، ثُمَّ كَالطَّيْرِ... ) الْحَدِيثَ. وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ" مَرْيَمَ" «٣». وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَابْنُ عَامِرٍ (لَتُرَوُنَّ) بِضَمِّ التَّاءِ، مِنْ أَرَيْتُهُ الشَّيْءَ، أَيْ تُحْشَرُونَ إِلَيْهَا فَتَرَوْنَهَا. وَعَلَى فَتْحِ التَّاءِ، هِيَ قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ، أَيْ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ بِأَبْصَارِكُمْ عَلَى الْبُعْدِ. (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) أَيْ مُشَاهَدَةً. وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ دَوَامِ مَقَامِهِمْ فِي النَّارِ، أَيْ هِيَ رُؤْيَةٌ دَائِمَةٌ مُتَّصِلَةٌ. وَالْخِطَابُ عَلَى هَذَا لِلْكُفَّارِ. وَقِيلَ: مَعْنَى لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَيْ لَوْ تَعْلَمُونَ الْيَوْمَ فِي الدُّنْيَا، عِلْمَ الْيَقِينَ فِيمَا أَمَامَكُمْ، مِمَّا وَصَفْتُ: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ بِعُيُونِ قُلُوبِكُمْ، فَإِنَّ عِلْمَ الْيَقِينِ يُرِيكَ الْجَحِيمَ بِعَيْنِ فُؤَادِكِ، وَهُوَ أَنْ تُتَصَوَّرَ لَكَ تَارَاتً الْقِيَامَةُ، وَقَطْعُ مَسَافَاتِهَا. ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ: أَيْ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ بِعَيْنِ الرَّأْسِ، فَتَرَاهَا يَقِينًا، لَا تَغِيبُ عن عينك. ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ: فِي مَوْقِفِ السُّؤَالِ وَالْعَرْضِ.
[سورة التكاثر (١٠٢): آية ٨]
ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: (مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ)؟ قَالَا: الجوع يا رسول الله. قال: (وأنا
(٢). آية ٧١ سورة مريم.
(٣). راجع ج ١١ ص ١٣٧.
فَلَمْ أَرَ كَالْإِسْلَامِ عِزًّا لِأُمَّةٍ | وَلَا مِثْلَ أَضْيَافِ الْإِرَاشِيِّ «١» مَعْشَرًا |
نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَفَارُوقُ أُمَّةٍ | وَخَيْرُ بَنِي «٢» حَوَّاءَ فَرْعًا وَعُنْصُرَا |
فَوَافَوْا لِمِيقَاتٍ وَقَدْرِ قَضِيَّةٍ | وَكَانَ قَضَاءُ اللَّهِ قَدْرًا «٣» مُقَدَّرَا |
إِلَى رَجُلٍ نَجْدٍ يُبَارِي بِجُودِهِ | شُمُوسَ الضُّحَى جُودًا وَمَجْدًا وَمَفْخَرَا |
وَفَارِسِ خَلْقِ اللَّهِ فِي كُلِّ غَارَةٍ | إِذَا لَبِسَ الْقَوْمُ الْحَدِيدَ الْمُسَمَّرَا |
فَفَدَّى وَحَيَّا ثُمَّ أَدْنَى قِرَاهُمُ | فَلَمْ يَقْرِهِمْ إلا سمينا متمرا «٤» |
(٢). في نسخة من الأصل: (وخير نبي جاء).
(٣). في نسخة من الأصل: (أمرا).
(٤). المقطع.
(٢). آية ٣٦ سورة الاسراء. [..... ]
(٢). آية ١٧ سورة سبأ وهذه قراءة نافع.
(٣). الأسودان: التمر والماء.
قلت : اسم هذا الرجل الأنصاري مالك بن التيهان، ويكنى أبا الهيثم. وفي هذه القصة يقول عبد الله بن رواحة، يمدح بها أبا الهيثم بن التيهان :
فلم أر كالإسلام عِزًّا لأمة | ولا مثل أضيافِ الإِرَاشِيِّ١ مَعْشَرَا |
نبيٌّ وصِدِّيقٌ وفاروق أمة | وخير بني٢ حواء فَرْعًا وعُنْصُرَا |
فوافوا لميقاتٍ وقدرِ قضية | وكان قضاء الله قَدْرًا٣ مُقَدَّرَا |
إلى رجل نجد يباري بجودِهِ | شُموسَ الضحى جودا ومجدا ومفخرا |
وفارسِ خلق الله في كل غارة | إذا لبِس القوم الحديد المُسَمَّرَا |
ففدّى وحيَّا ثم أدنى قراهم | فلم يَقْرِهِمْ إلا سمينا مُتَمِّرَا٤ |
أحدها : الأمن والصحة، قاله ابن مسعود. الثاني : الصحة والفراغ، قاله سعيد بن جبير. وفي البخاري عنه عليه السلام :" نعمتان مغبون٥ فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ". الثالث : الإدراك بحواس السمع والبصر، قاله ابن عباس. وفي التنزيل :﴿ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ﴾٦ [ الإسراء : ٣٦ ]. وفي الصحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( " يؤتي بالعبد يوم القيامة، فيقول له : ألم أجعل لك سمعا وبصرا، ومالا وولدا. . . . "، الحديث. خرجه الترمذي وقال فيه : حديث حسن صحيح. الرابع : ملاذ المأكول والمشروب، قاله جابر بن عبد الله الأنصاري، وحديث أبي هريرة يدل عليه. الخامس : أنه الغداء والعشاء، قاله الحسن. السادس : قول مكحول الشامي : إنه شبع البطون، وبارد الشراب، وظلال المساكن، واعتدال الخلق، ولذة النوم. ورواه زيد بن أسلم عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ﴿ لتسألن يومئذ عن النعيم ﴾ يعني عن شبع البطون. . . ". فذكره، ذكره الماوردي، وقال : وهذا السؤال يعم الكافر والمؤمن، إلا أن سؤال المؤمن تبشير بأن يجمع له بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. وسؤال الكافر تقريع أن قابل نعيم الدنيا بالكفر والمعصية. وقال قوم : هذا السؤال عن كل نعمة، إنما يكون في حق الكفار، فقد روي أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال : يا رسول الله، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان، من خبز شعير ولحم وبسر قد ذنب٧، وماء عذب، أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه ؟ فقال عليه السلام :" ذلك للكفار، ثم قرأ :﴿ وهل نجازي إلا الكفور ﴾٨ [ سبأ : ١٧ ]، ذكره القشيري أبو نصر. وقال الحسن : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار. وقال القشيري : والجمع بين الأخبار : أن الكل يسألون، ولكن سؤال الكفار توبيخ ؛ لأنه قد ترك الشكر. وسؤال المؤمن سؤال تشريف ؛ لأنه شكر، وهذا النعيم في كل نعمة.
قلت : هذا القول حسن ؛ لأن اللفظ يعم. وقد ذكر الفريابي قال : حدثنا ورقاء ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله تعالى :﴿ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ﴾ قال : كل شيء من لذة الدنيا. وروى أبو الأحوص عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :{ إن الله تعالى ليعدد نعمه على العبد يوم القيامة، حتى يعد عليه : سألتني فلانة أن أزوجكها، فيسميها باسمها، فزوجتكها ". وفي الترمذي عن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية :﴿ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ﴾ قال الناس : يا رسول الله، عن أي النعيم نسأل ؟ فإنما هما الأسودان٩ والعدو حاضر، وسيوفنا على عواتقنا. قال :" إن ذلك سيكون ". وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة - يعني العبد - أن يقال له : ألم نصح لك جسمك، ونرويك من الماء البارد "، قال : حديث ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده، فيوقفه بين يديه، فيسأله عن جاهه كما يسأل عن ماله ". والجاه من نعيم الدنيا لا محالة. وقال مالك رحمه الله : إنه صحة البدن، وطيب النفس، وهو القول السابع. وقيل : النوم مع الأمن والعافية. وقال سفيان بن عيينة : إن ما سد الجوع وستر العورة من خشن الطعام واللباس، لا يسأل عنه المرء يوم القيامة، وإنما يسأل عن النعيم. قال : والدليل عليه أن الله تعالى أسكن آدم الجنة. فقال له :﴿ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى. وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ﴾١٠ [ طه : ١١٨ ]. فكانت هذه الأشياء الأربعة - ما يسد به الجوع، وما يدفع به العطش، وما يستكن فيه من الحر، ويستر به عورته، لآدم عليه السلام بالإطلاق، لا حساب عليه فيها ؛ لأنه لابد له منها.
قلت : ونحو هذا ذكره القشيري أبو نصر، قال : إن مما لا يسأل عنه العبد لباسا يواري سوأته، وطعاما يقيم صلبه، ومكانا يكنه من الحر والبرد.
قلت : وهذا منتزع من قول عليه السلام :" ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال : بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء "، خرجه الترمذي. وقال النضر بن شميل : جلف الخبز : ليس معه إدام. وقال محمد بن كعب : النعيم : هو ما أنعم الله علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم. وفي التنزيل :﴿ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ﴾١١ [ آل عمران : ١٦٤ ]. وقال الحسن أيضا والمفضل : هو تخفيف الشرائع، وتيسير القرآن، قال الله تعالى :﴿ وما جعل عليكم في الدين من حرج ﴾١٢ [ الحج : ٧٨ ]، وقال تعالى :﴿ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ﴾١٣ [ القمر : ١٧ ].
قلت : وكل هذه نعم، فيسأل العبد عنها : هل شكر ذلك أم كفر. والأقوال المتقدمة أظهر. والله أعلم.
٢ في نسخة من الأصل: "وخير نبي جاء"..
٣ في نسخة من الأصل: "أمرا"..
٤ المقطع..
٥ أي ذو خسران فيهما. والنعمة: ما ينعم به الإنسان ويستلذه. والغبن: أن يشتري بأضعاف الثمن.
أو يبيع بدون ثمن المثل. فمن صح بدنه: وتفرغ من الأشغال العائقة، ولم يسع لصلاح آخرته، فهو كالمغبون في البيع.
والمقصود: بيان أن غالب الناس لا ينتفعون بالصحة والفراغ، بل يصرفونهما في غير محالهما. (عن شرح سنن ابن ماجه)..
٦ آية ٣٦ سورة الإسراء..
٧ أي بدأ فيه الإرطاب..
٨ آية ١٧ سورة سبأ، وهذه قراءة نافع..
٩ الأسودان: التمر والماء..
١٠ آية ١١٨، ١١٩ سورة طه..
١١ آية ١٦٤ سورة آل عمران..
١٢ آية ٧٨ سورة الحج..
١٣ آية ١٧ سورة القمر..