ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨)﴾.أسباب النزول
سبب نزول هذه السورة: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي بريدة قال: نزلت ألهاكم التكاثر في قبيلتين من الأنصار؛ وهما: بنو حارثة، وبنو الحارث، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: أفيكم مثل فلان وفلان، وقالت الأخرى: مثل ذلك تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول: أفيكم مثل ذلك وتشير إلى القبر ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله تعالى هذه السورة، وقيل غير ذلك.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١)﴾ أي: شغلكم التكاثر بالأموال والأولاد والتفاخر بكثرتها والتغالب فيها يقال: ألهاه عن كذا، وألهاه إذا شغله، ومنه قول امرىء القيس:
فَمِثْلَكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ | فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِيْ تَمَائِمَ مُحْوِلِ |
٢ - ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢)﴾؛ أي: حتى أدرككم الموت وأنتم على تلك الحال ولحقتم بالقبور، وقال قتادة: إن
وفي الآية: دليل (١) على أن الاشتغال بالدنيا والمكاثرة بها والمفاخرة فيها من الخصال المذمومة، وقال تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١)﴾ وحذف (٢) المُلهى عنه؛ أي: الذي أُلهِيَ عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدنيا للتعظيم، والمبالغة، أما الأول فلأن الحذف كالتنكير قد يُجعل ذريعة إلى التعظيم لاشتراكهما في الإبهام، وأما الثاني فلأن تذهب النفس كل مذهب ممكن، فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام مثل: ألهاكم التكاثر عن ذكر الله وعن الواجبات، والمندوبات مما يتعلق بالقلب كالعلم والتفكر والاعتبار، أو بالجوارح كأنواع الطاعات، وتعريف التكاثر للعهد. والعهد المذموم هو التكاثر في الأمور الدنيوية الفانية، كالتفاخر بالمال والجاه والأعوان والأقرباء، وأما التفاخر بالأمور الأخروية الباقية، فممدوح، كالتفاخر بالعلم والعمل والأخلاق الكريمة والصحة والقوة والغنى والجمال وحسن الصوت إذا كان بطريق تحديث النعمة، ومنه تفاخر العباس - رضي الله عنه - بأن السقاية بيده، وتفاخر شيبة بأن مفتاح البيت بيده إلى أن قال علي - رضي الله عنه -: وأنا قطعت خرطوم الكفر بسيفي، فصار الكفر مثلة، ومعنى ﴿التَّكَاثُرُ﴾: مكاثرة اثنين مالًا أو عددًا بأن يقول كل منهما لصاحبه: أنا أكثر منك مالًا وأعظم نفرًا، كما كثر بنو عبد مناف على بني سهم، كما سبق آنفًا.
والمعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى زرتم المقابر؛ أي: استوعبتم عددهم وصرتم إلى التفاخر والتكاثر بالأموات، فعبر عن انتقالهم إلى ذكر الموتى بزيارة
(٢) روح البيان.
وفي الآية: إشارة إلى أنهم يُبعثون، فإن الزائر منصرف لا مقيم، وقرأها عمر بن عبد العزيز، فقال: ما أرى المقابر إلا زيارة، ولا بد لمن زار أن يرجع إلى بيته إما إلى الجنة أو إلى النار، وفيه تحذير عن الدنيا وترغيب في الآخرة والاستعداد للموت.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أَلْهَاكُمُ﴾ على الخبر، وقرأ ابن عباس وعائشة ومعاوية وأبو عمران الجوني وأبو صالح ومالك بن دينار وأبو الجوزاء وجماعة بالمد على الاستفهام، وقد روي كذلك عن الكلبي ويعقوب وعن أبي بكر الصديق وابن عباس أيضًا وأبي العالية وابن أبي عبلة والكسائي في رواية: ﴿أألهاكم﴾ بهمزتين، ومعنى الاستفهام التوبيخ والتقريع على قبح فعلهم.
وحاصل معنى الآية: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١)﴾؛ أي: شغلكم (٣) التفاخر والتباهي بكثرة الأنصار والأشياع وصرفكم ذلك عن الجد في العمل، فكنتم في لهو بالقول عن العمل، وفي غرور وإعجاب بالآباء والأعوان وصرفكم ذلك عن توجيه قواكم إلى العمل بما فُرض عليكم من الأعمال لأنفسكم وأهليكم، وما زال ذلك ديدنكم ودأبكم الذي سرتم عليه.
وروى مسلم عن أنس أن النبي - ﷺ - قال: "لو أن لابن آدم واديًا من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب".
﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢)﴾؛ أي: حتى هلكتم وصرتم من الموتى، فأضعتم
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
كما لا خلاف في منع زيارتها إذا حدث في ذلك منكرات وأشياء مما نهى عنه الشرع، كاختلاط الرجال بالنساء وحدوث فتن لا تحمد عقباها،
٣ - ثم نبههم إلى خطأ ما هم عليه، وزجرهم عن البقاء على تلك الحال التي لها وخيم العاقبة، فقال: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣)﴾ ﴿كَلَّا﴾ ردع (١) عما هم عليه من التكاثر؛ أي: ليس الأمر كما يتوهم هؤلاء من أن فضل الإنسان وسعادته بكثرة أعوانه وقبائله وأمواله؛ أي: ارتدعوا عن هذا وتنبهوا عن الخطأ به، وتنبيه على أن العاقل ينبغي أن لا يكون معظم همه مقصورًا على الدنيا، فإن عاقبة ذلك وبال وحسرة ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾؛ أي: سوف تعلمون الخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول المحشر، فالعلم بمعنى المعرفة، ولذا قُدر له مفعول واحد، وهذا إنذار وتخويف ليخافوا وينتبهوا من غفلتهم.
قال الحسن - رحمه الله تعالى -: لا يغرنك كثرة من ترى حولك، فإنك تموت وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك، والمعنى؛ أي (٢): ازدجروا عن مثل هذا العمل الذي لا تكون عاقبته إلا القطيعة والهجران والضغينة والأحقاد، وَالْجَؤوا إلى التناصر على الحق، والتكاتف على أعمال البر، والتضافر على ما فيه حياة الأفراد والجماعات من تقويم الأخلاق وتطهير الأعراق، وإنكم سوف تعلمون عاقبة ما أنتم فيه من التكاثر إذا استمر بكم هذا التفاخر بالباطل بدون عمل صالح نافع لكم في العقبى،
٤ - ثم أكد هذا وزاد في التهديد، فقال: ﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤)﴾ كرر الردع تأكيدًا للزجر والإنذار، وفي ﴿ثُمَّ﴾ (٣) دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول؛ لأن فيه تأكيدًا خلا عنه الأول؛ لأن فيه تنزيلًا لبعد المرتبة، مرتبة بعد الزمان، واستعمالًا للفظ ﴿ثُمَّ﴾ في مجرد التدرج في درج الارتقاء، كما تقول للمنصوح:
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
وعن علي - رضي الله عنه -: ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت هذه السورة إلى قوله: ﴿ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤)﴾؛ أي: سوف تعلمون في القبر ثم في القيامة.
٥ - ﴿كَلَّا﴾ تكرير للتنبيه تأكيدًا ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾؛ أي: لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علمًا يقينًا لعلمكم ما هو متيقن عندكم في الدنيا.. لشغلكم ذلك عن التكاثر والتفاخر، من لفعلتم ما ينفعكم من الخير، وتركتم ما لا ينفعكم مما أنتم فيه، و ﴿كَلَّا﴾ في هذا الموضع الثالث للزجر والردع كالموضعين الأولين جيء بها للتأكيد، وقال الفراء: هي (١) بمعنى حقًا، وقيل: هي في المواضع الثلاثة بمعنى ألا، وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف كما قدرنا للتهويل، فإنه إذا حُذف الجواب يذهب الوهم كل مذهب ممكن، و ﴿عِلْمَ﴾ مصدر أضيف إلى مفعوله، و ﴿الْيَقِينِ﴾: صفة لذلك المفعول، وهو المتيقَّن به؛ أي: لو تعلمون ما بين أيديكم من الأهوال علم الأمر المتيقن به كمال التيقن حتى كأنه عين اليقين.. لشغلكم ذلك عن التكاثر والتفاخر، لكنكم ضُلَّال جهلة، فاليقين بمعنى المتيقن به، وإلا فيلزم إضافة أحد المترادفين إلى الآخر؛ إذ العلم في اللغة بمعنى اليقين، ويمكن أن تكون الإضافة فيه من إضافة العام إلى الخاص بناء على أن اليقين أخص من العلم، فإن العلم قد يعم الظن واليقين، فتكون إضافته كإضافة بلد بغداد، ويدل قولهم: العلم اليقين بالوصف.
والمعنى: أي (٢) ارتدعوا عن تغريركم بأنفسكم، فإنكم لو تعلمون عاقبة أمركم لشغلكم ذلك عن التكاثر، وصرفكم إلى صالح الأعمال، وإن ما تدَّعونه علمًا ليس
(٢) المراغي.
٦ - ثم ذكر لهم بعض ما ينتهي إليه هذا اللهو، وهو عذاب الآخرة بعد خزي الدنيا، فقال: ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦)﴾ جواب قسم محذوف، أكد به الوعيد حيث إن ما أوعدوا به مما لا مدخل فيه للريب، وشدد به التهديد، وأوضح به ما أنذروه بعد إبهامه تفخيمًا، تقديره: والله لترون الجحيم في الآخرة بأبصاركم، ولا يجوز أن يكون جواب ﴿لَوْ﴾: لأن رؤية الجحيم مثبتة محققة الوقوع وليست بمعلقة. قال الرازي: وليس هذا جواب ﴿لَوْ﴾؛ لأن جواب ﴿لَوْ﴾ يكون منفيًا وهذا مثبت، ولأنه عطف عليه.
﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ﴾: وهو مستقبل لا بد من وقوعه، وحذف جواب ﴿لَوْ﴾ كثير، فلو جعل جواب ﴿لَوْ﴾ لكان المعنى: إنكم لا ترونها لكونكم جهالًا، وهو غير صحيح، وقال بعضهم: يصح أن يكون جوابًا، فيكون المعنى: سوف تعلمون الجزاء، ثم قال: لو تعلمون الجزاء علم اليقين الآن لترون الجحيم يعني: يكون الجحيم دائمًا في نظركم لا يغيب عنكم أصلًا اهـ.
والرؤية هنا بصرية؛ أي: وعزتي، وجلالي: إنكم لترون الجحيم بأبصاركم بعد الموت، فلذلك تعدت إلى مفعول واحد،
٧ - ثم كرر الوعيد والتهديد للتأكيد، فقال: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (٧)﴾؛ أي: ثم لترون الجحيم الرؤية التي هي نفس اليقين، وهي المشاهدة والمعاينة، وقيل: الأولى (١) إذا رأوها من مكان بعيد ببعض خواصها وأحوالها مثل رؤية لهبها ودخانها، والثانية إذا اوردوها، فإن معاينة نفس الحفرة وما فيها من الحيوانات المؤذية وكيفية السقوط فيها أجلى وأكشف من الرؤية الأولى، فعلى هذا يتنازع الفعلان في عين اليقين، أو المراد بالأولى المعرفة، وبالثانية المشاهدة، والمعاينة،
وإنما قيَّد الرؤية بعين اليقين احترازًا عن رؤية فيها غلط الحس، فانتصاب ﴿عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ على أنه صفة المصدر ﴿لَتَرَوُنَّهَا﴾، وجعل الرؤية التي هي سبب اليقين نفس اليقين مبالغة.
والمعنى: أي (٢) لترونها رؤية هي اليقين إلى أي دين، أو إلى أي شخص كانت نسبتكم، فلتتقوا الله ربكم ولتنتهوا عما يقذف بكم فيها، ولتنظروا إلى ما أنتم فيه من نعمة، ولترعوا حق الله فيها، فاستعملوها فيما أمر أن تُستعمل فيه، ولا تجترحوا السيئات، ولا تقترفوا المنكرات، وإنكم لتمنون أنفسكم بأنكم ممن يعفو الله عنكم ويزحزحكم من النار بمجرد نسبتكم إلى الدين الإِسلامي، وتلقيبكم بألقابه مع مخالفتكم أحكام القرآن وعملكم عمل أعداء الإِسلام.
وقرأ ابن عامر والكسائي (٣): ﴿لترون﴾ بضم التاء وباقي السبعة بالفتح، وقرأ علي وابن كثير في رواية، وعاصم في رواية بفتحها في: ﴿لَتَرَوُنَّ﴾ وضمها في: ﴿لَتَرَوُنَّهَا﴾ ومجاهد والأشهب وابن أبي عبلة بضمهما، وروي عن الحسن وأبي عمرو بخلاف عنهما أنهما همزا الواوين، استثقلوا الضمة على الواو، فهمزوا كما همزوا في: وقتت، وكان القياس أن لا تهمز؛ لأنها حركة عارضة لالتقاء الساكنين، فلا يعتد بها، لكنها لما تمكنت من الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا، وقد همزوا من الحركة العارضة ما يزول في الوقت نحو: استرؤوا الصلاة فهمز هذه أولى.
٨ - ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨)﴾ قال في "التيسير": كلمة (٤) ﴿ثُمَّ﴾ للترتيب
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
وفي "الشوكاني" قوله: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨)﴾؛ أي: نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن العمل للآخرة، قال قتادة: يعني كفار مكة كانوا في الدنيا في الخير والنعمة، فيُسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه، ولم يشكروا رب النعم حيث عبدوا غيره وأشركوا به، قال الحسن: لا يُسأل عن النعيم إلا أهل النار، وقال قتادة: إن الله سبحانه سائلٌ كلَّ ذي نعمة عما أنعم عليه، وهذا هو الظاهر كما مر عن أبي حيان، ولا وجه لتخصيص النعيم بفرد من الأفراد أو نوع من الأفراد؛ لأن تعريفه للجنس أو للاستغراق، ومجرد السؤال لا يستلزم تعذيب المسؤول على النعمة التي يُسأل عنها، فقد يسأل الله المؤمن عن النعم التي أنعم بها عليه فيم صرفها وبم عمل فيها؛ ليعرف تقصيره وعدم قيامه بما يجب عليه من الشكر عليها، وقيل: السؤال عن الأمن والصحة، وقيل: عن الإدراك بالحواس، وقيل: عن ملاذ المأكول والمشروب، وقيل: عن الغداء والعشاء، وقيل: عن بارد الماء وظلال المساكن، وقيل: عن اعتدال الخلق، وقيل: عن لذة النوم، وقيل: عن الصحة والفراغ، والأولى الدموم كما ذكرنا، وفي الحديث: "نعمتان مغبون فيهما كثير من
والمعنى: أي إن هذا النعيم الذي تتفاخرون به وتعدونه مما يباهي به بعضكم بعضًا ستسألون عنه ماذا صنعتم به، هل أديتم حق الله فيه، وراعيتم حدود أحكامه في التمتع به؟ فإن لم تفعلوا ذلك كان هذا النعيم غاية الشقاء في دار البقاء.
روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: أي نعيم نُسأل عنه يا رسول الله، وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا، فقال رسول الله - ﷺ -: "ظلال المساكن والأشجار، والأخبية التي تقيكم الحر والبرد، والماء البارد في اليوم الحارث، وروي عن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - قال: نزلت: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨)﴾ قال الزبير: يا رسول الله: وأي نعيم نُسأل عنه، وإنما هما الأسودان التمر والماء؟ قال: "أما إنه سيكون" أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن.
وروي أن رسول الله - ﷺ - قال: "من أصبح آمنًا في بدنه، معافى في بدنه، وعنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها".
وروى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - ﷺ - ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال رسول الله - ﷺ -: "ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ " قالا: الجوع يا رسول الله، قال: "والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، فقدما فقاموا معه، فأتى رجلًا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبًا وأهلًا، فقال لها رسول الله - ﷺ -: أين فلان؟ " قالت: ذهب يستعذب لنا الماء؛ إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله - ﷺ -
قال الرازي: قيل السؤال إنما هي عن الزائد على ما لا بد منه من مطعم وملبس ومسكن، والحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر، وأنه عن جميع النعم سواء كانت النعم مما لا بد منه أو لا، والسؤال إنما هو في موقف الحساب، و ﴿ثُمَّ﴾ للترتيب الإخباري لا المعنوي؛ لأن السؤال قبل رؤية الجحيم. انتهى.
تتمة: والفرق بين علم اليقين وعين اليقين أن علم اليقين: هو إدراك الشيء من غير مشاهدة، وعين اليقين: الرؤية التي هي العلم به مع المشاهدة، وأما حق اليقين فهو: مع الملاصقة والممازجة، وقد أخبر الله سبحانه هنا بالأولين، وأخبر بالثالث في سورة الواقعة، حيث قال: ﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ...﴾ الآية، والله أعلم.
الإعراب
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦)﴾.
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١)﴾: فعل ماض ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر، والجملة مستأنفة. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية، أو عاطفة. ﴿زُرْتُمُ﴾: فعل وفاعل في محل النصب بأن مضمرة؛ لأنه ماض في اللفظ مستقبل في المعنى بالنسبة إلى ما قبل ﴿حَتَّى﴾. ﴿الْمَقَابِرَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى، تقديره: ألهاكم التكاثر إلى زيارتكم المقابر، أو الجملة معطوفة على جملة ﴿أَلْهَاكُمُ﴾. ﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر عن التشاغل عن الطاعات. ﴿سَوْفَ﴾:
﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف، ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿لَتَرَوُنَّهَا﴾ ﴿تروُنَّ﴾: فعل مضارع، وفاعل، مرفوع بثبات النون، و ﴿الهاء﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على الجيملة التي قبلها، ﴿عَيْنَ الْيَقِينِ﴾: منصوب على المصدرية؛ لأنه مصدر معنوي لرأى؛ لأن رأى وعاين بمعنى واحد، أو لأنها صفة لمصدر محذوف؛ أي: لترونها رؤية عين اليقين. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف، ﴿لَتُسْأَلُنَّ﴾ ﴿تُسألن﴾: فعل مضارع مرفوع، وعلامة
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١)﴾؛ أي: شغلكم التفاخر بالأموال والأولاد عن دينكم، واللهو: ما يشغل الإنسان سواء أكان مما يسر أم لا، ثم خص بما يشغل مما فيه سرور، وإذا أُلهي المرء بشيء فهو غافل به عما سواه، والتكاثر: التباهي بالكثرة بأن يقول كل للآخر: أنا أكثر منك مالًا، أنا أكثر منك ولدًا، أنا أكثر منك رجال ضرب وحرب.
﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢)﴾؛ أي: حتى صرتم من الموتى، قال جرير:
زَارَ الْقُبُوْرَ أَبُوْ مَالِكٍ | فَأَصْبَحَ أَلأمَ زُوَّارِهَا |
أَرَى أَهْلَ الْقُبُوْرِ إِذَا أمِيْتُوْا | بَنَوْا فَوْقَ الْمَقَابِرِ بِالصُّخُوْرِ |
أَبَوْا إِلَّا مُبَاهَاةً وَفَخْرًا | عَلَى الْفُقَرَاءِ حَتَّى فِيْ الْقُبُوْرِ |
وقوله: ﴿أَلْهَاكُمُ﴾ أصله: أَلْهَيَكم بوزن أفعَلَ، قُلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وقوله: ﴿زُرْتُمُ﴾ فيه إعلال بالقلب والحذف، أصله: زَوَرَ قلبت الواو ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم أُسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك، فسُكِّن آخره فالتقى ساكنان، فحُذفت الألف، ثم حذفت حركة فاء الفعل، وعُوَّض عنها حركة مناسبة للعين المحذوفة التي هي الواو، والمناسب لها الضمة، فقيل: زرتم بوزن فلتم.
قوله: ﴿لَتَرَوُنَّ﴾ أصله: لتَرْأَيُون بوزن تفعلون، كما مر آنفًا، نقلت حركة الهمزة إلى الراء، ثم حذفت بعد النقل تخفيفًا، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد
﴿عِلْمَ الْيَقِينِ﴾؛ أي: علم الأمر الميقون الموثوق به.
﴿لَتُسْأَلُنَّ﴾ أصله: لتسألون، اتصلت بالفعل نون التوكيد الثقيلة، فاجتمع ثلاث نونات، فحذفت نون الرفع، فصار لتسألون، فالتقى ساكنان فحُذفت الواو.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التذكير والتوبيخ في قوله: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١)﴾؛ لأنه قد خرج الخبر فيه عن حقيقته إلى التوبيخ والتذكير.
ومنها: حذف المُلهى عنه؛ أي: الذي أُلْهِيَ عنه، وهو ما يعنيهم من أمر الدين في قوله: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١)﴾؛ للتعظيم والمبالغة، أما الأول فلأن الحذف كالتنكير قد يُجعل ذريعة إلى التعظيم لاشتراكهما في الإبهام، وأما الثاني فلأن تذهب النفس كل مذهب ممكن، فيدخل فيه جميع ما يحتمله المقام، مثل ألهاكم التكاثر عن ذكر الله تعالى، من ألهاكم التكاثر عن الواجبات أو عن المندوبات أو عن المهمات مثلًا.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾؛ لأنه عبر عن انتقالهم إلى ذكر الموتى بزيارة القبور؛ أي: جُعلت الزيارة كناية عنه تهكمًا بهم، قال الطيبي: إنما كان تهكمًا؛ لأن زيارة القبور شُرعت لتذكر الموت ورفض حب الدنيا وترك المباهاة والتفاخر، وهؤلاء عكسوا حيث جعلوا زيارة القبور سببًا لمزيد القسوة والاستغراق في حب الدنيا والتفاخر بالكثرة.
ومنها: التكرار للتهديد والإنذار في قوله: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤)﴾، وعطفه بـ ﴿ثُمَّ﴾ للتنبيه على أن الثاني أبلغ من الأول، كما يقول
ومنها: حذف جواب ﴿لَوْ﴾ للتهويل والتفخيم في قوله: ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ تقديره: لرأيتم ما تشيب له الرؤوس، وتفزع له النفوس من الشدائد والأهوال؛ لأنه إذا حذف الجواب يذهب الوهم كل مذهب ممكن.
ومنها: القسم في قوله: ﴿لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦)﴾؛ لتوكيد الوعيد.
ومنها: تكرار القسم معطوفًا بـ ﴿ثُمَّ﴾ في قوله: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (٧)﴾ تغليظًا في التهديد، وزيادة في الوعيد.
ومنها: جعل الرؤية ﴿عَيْنَ الْيَقِينِ﴾ وخالصته مبالغة خاصة.
ومنها: حذف متعلق العلم في قوله: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣)...﴾ إلخ في الأفعال الثلاثة إشعارًا بأن الغرض هو الفعل لا متعلقه، كما في "السمين".
ومنها: الإطناب بتكرار الفعل في قوله: ﴿لَتَرَوُنَّ﴾ وقوله: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا﴾ لبيان شدة الهول.
ومنها: تكرار القسم معطوفًا في قوله: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨)﴾ تغليظًا في التهديد وزيادة في الوعيد.
ومنها: التعريف بـ ﴿أل﴾ الاستغراقية في قوله: ﴿عَنِ النَّعِيمِ﴾ إشعارًا بأن السؤال عن جميع أنواع النعم وأفرادها.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة العصر مكية عند الجمهور نزلت بعد سورة الشرح، وقال قتادة: هي مدنية، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة العصر بمكة، وهي ثلاث آيات، وأربع عشرة كلمة، وثمانية وستون حرفًا.
المناسبة: ومناسبتها لما قبلها (١): أنه ذكر في السورة السابقة أنهم اشتغلوا بالتفاخر والتكاثر، وبكل ما من شأنه أن يُلهي عن طاعة الله، وذكر هنا أن طبيعة الإنسان داعية إلى البوار، وموقعة له في الدمار، إلا من عصم الله وأزال عنه شرور نفسه، فكان هذا تعليل لما سلف. إلى أنه ذكر في السالفة صفة من أَتبع نفسه وهواه، وجرى مع شيطانه حتى وقع في التهلكة، وهنا ذكر من تجمل بأجمل الطباع، فآمن بالله وعمل الصالحات، وتواصى مع إخوانه على الاستمساك بعرى الحق، والاصطبار على مكارهه.
وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها: أنه لما قال فيما قبلها:
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١)﴾ ووقع التهديد بتكرار ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣)﴾ | بيَّن هنا حال المؤمن والكافر اهـ. وسميت سورة العصر؛ لذكر لفظ العصر فيها. |
فضلها: ومما ورد في فضلها: ما أخرجه (٣) الطبراني في "الأوسط" والبيهقي في "الشعب" عن أبي مزينة الدارمي، وكانت له صحبة قال: كان الرجلان من أصحاب النبي - ﷺ - إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر،
(٢) الناسخ والمنسوخ.
(٣) الشوكاني.
ومنها: ما روي عن النبي - ﷺ -: من قرأ سورة العصر غفر الله له، وكان ممن تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وروي (١) عن الإِمام الشافعي - رحمه الله تعالى - أنه قال: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم، أو قال: لو لم يُنزَل من القرآن سواها لكفت الناس.
وهذه السورة من أجلِّ سور القرآن العظيمِ وأوجزها لفظًا وأكثرها معنًى وحكمة وبيانًا، ولجلالة ما جمعت من المعاني السامية أنه كان الرجلان من أصحاب رسول الله - ﷺ - إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر، كما مر آنفًا ذلك؛ ليُذكّر كل منهما صاحبه بما يجب أن يكون عليه من امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، وفي هذه السورة أعظم دلالة على إعجاز القرآن، ألا ترى أنها مع قلة حروفها تدل على جميع ما يحتاج إليه الناس في الدين علمًا وعملًا، وفي وجوب التواصي بالحق والصبر إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *