ﰡ
عاقبة التكاثر في المال والجاه
الناس في لغو ولهو وطرب، ينساقون وراء المال والجاه، والصيت والسمعة، ويحرصون على التنويه بذواتهم في إطار التفوق المادي وجمع المال بأي طريق. ويظل هذا الحرص مهيمنا على مشاعرهم طوال الحياة. فمنهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال. ولقد حذر القرآن الكريم في مناسبات كثيرة من الاغترار بالدنيا وزينتها ومفاتنها، ومن فتنة الأموال والأولاد والأزواج، ولا سيما في سورة التكاثر المكية بلا خلاف:
[سورة التكاثر (١٠٢) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤)كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [التكاثر: ١٠٢/ ١- ٨].
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن بريدة في قوله: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) قال: نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار، في بني حارثة وبني الحارث، وتفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما، فيكم مثل فلان ابن فلان وفلان؟ وقال الآخرون: مثل ذلك،
(٢) التفاخر بكثرة المال والولد.
(٣) علما يقينيا: وهو العلم القطعي الذي نشأ عن اعتقاد مطابق للواقع، عن معاينة أو دليل صحيح.
(٤) لتشاهدن النار.
(٥) لتشاهدنها حقيقة أو عيانا كأنها اليقين نفسه، فعلم المشاهدة: هو عين اليقين.
فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبور، ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) لقد كان لكم فيما رأيتم عبرة وشغل.
وأخرج ابن جرير عن علي رضي الله عنه قال: كنا نشك في عذاب القبر، حتى نزلت: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) إلى قوله: ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) في عذاب القبر.
لقد شغلكم بلذاته ومفاتنه التفاخر والتباهي بالأموال والأولاد والأعوان، والاعتناء بكثرتها وتحصيلها، شغلكم عن طاعة الله والعمل للآخرة، حتى أدرككم الموت، وأنتم على تلك الحال. وهذا خبر فيه تقريع وتوبيخ وتحسر. والتكاثر: التفاخر بالأموال والأولاد والعدد جملة، وهذا ولع أهل الدنيا ودأبهم وعادتهم، سواء من العرب وغيرهم، لا يتخلص منه إلا العلماء المتقون.
أخرج البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت».
ومعنى حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) مختلف فيه، قال بعضهم بما يناسب سبب النزول: حتى ذكرتم الموتى في تفاخركم بالآباء والسلف، وتكثّرتم بالعظام الرميم، وقال آخرون: المعنى، حتى متّم وزرتم بأجسادكم مقابركم، أي قطعتم بالتكاثر أعماركم. وعلى هذا التأويل روي أن أعرابيا سمع هذه الآية، فقال: بعث القوم للقيامة، وربّ الكعبة، فإن الزائر منصرف لا يقيم.
كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) أي ارتدعوا وانزجروا عن هذا التكاثر الذي يؤدي إلى
ثم أكد الله تعالى ذلك الزجر والوعيد للاتعاظ، أي ارتدعوا عن هذا اللهو بالدنيا، فإنكم لو تعلمون الأمر الذي أنتم صائرون إليه علما يقينيا، لانشغلتم عن التكاثر والتفاخر، ولبادرتم إلى صالح الأعمال، ولما ألهاكم التباهي عن أمر الآخرة العظيم والإعداد لها. وهذا زيادة في الزجر واللوم عن الانهماك في الدنيا، والانهماك بمظاهر الحياة الزائلة.
وقوله تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ جواب (لو) محذوف مقدر في القول، أي لازدجرتم وبادرتم إنقاذ أنفسكم من الهلكة. واليقين: أعلى مراتب العلم. ثم فسر الله تعالى الوعيد، وأخبر الناس أنهم يرون الجحيم بقوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) أي لتشاهدن النار في الآخرة، أي تذوقوا عذابها، وهذا جواب قسم محذوف، وهو توعد بحال رؤية النار، التي إذا زفرت زفرة واحدة، خرّ كل ملك مقرّب، ونبي مرسل، على ركبتيه من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال الجسام.
ثم أكد الله تعالى ذلك الوعيد بقوله: ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) أي ثم لتشاهدنّ الجحيم مشاهدة عيانا هي نفس اليقين، وهي المشاهدة أو الرؤية بأعينكم، فإياكم من الوقوع فيما يؤدي إلى النار من اقتراف المعاصي والسيئات.
ثم أكد الله تعالى المساءلة عن الأعمال، للتحذير، فقال: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨) أي إنكم سوف تسألون عن نعيم الدنيا الذي ألهاكم عن العمل للآخرة، وتسألون عن أنواع نعيم الدنيا، من أمن وصحة وفراغ ومأكول ومشروب ومسكن، وغير ذلك من النعيم. قال الزمخشري: عَنِ النَّعِيمِ عن اللهو والتنعم