تفسير سورة قريش

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة قريش من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة قريش
هذه السورة مكية في قول الجمهور، مدنية في قول الضحاك وابن السائب. ومناسبتها لما قبلها ظاهرة، ولا سيما أن جعلت اللام متعلقة بنفس فجعلهم، وهو قول الأخفش، أو بإضمار فعلنا ذلك

سورة قريش
[سورة قريش (١٠٦) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)
قُرَيْشٌ: عَلَمٌ اسْمُ قَبِيلَةٍ، وَهُمْ بَنُو النَّضْرِ بْنُ كِنَانَةَ، فَمَنْ كَانَ مِنْ بَنِي النَّضْرِ فَهُوَ مِنْ قُرَيْشٍ دُونَ بَنِي كِنَانَةَ. وَقِيلَ: هُمْ بَنُو فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ، فَمَنْ لَمْ يَلِدْهُ فِهْرٌ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَثْبَتُ، وَسُمُّوا بِذَلِكَ لِتَجَمُّعِهِمْ بَعْدَ التَّفَرُّقِ، وَالتَّقْرِيشُ: التَّجَمُّعُ وَالِالْئِتَامُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِخْوَةٌ قَرَّشُوا الذُّنُوبَ عَلَيْنَا فِي حَدِيثٍ مِنْ دَهْرِهِمْ وَقَدِيمِ
كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ، فَجَمَعَهُمْ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ فِي الْحَرَمِ حَتَّى اتَّخَذُوهُ مَسْكَنًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ:
أَبُونَا قُصَيُّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا بِهِ جَمَعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: التَّقَرُّشُ: التَّكَسُّبُ، وَقَدْ قَرَشَ يَقْرِشُ قَرْشًا، إِذَا كَسَبَ وَجَمَعَ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ. وَقِيلَ: كَانُوا يُفَتِّشُونَ عَلَى ذِي الْخَلَّةِ مِنَ الْحَاجِّ لِيَسُدُّوهَا، وَالْقَرْشِ:
التَّفْتِيشُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَيُّهَا النَّاطِقُ الْمُقَرِّشُ عَنَّا عِنْدَ عَمْرٍو وَهَلْ لِذَاكَ بَقَاءُ
وَسَأَلَ مُعَاوِيَةُ ابْنَ عَبَّاسٍ: بِمَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا؟ فَقَالَ: بِدَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ أَقْوَى دَوَابِّهِ يُقَالُ لَهَا الْقِرْشُ، تَأْكُلُ وَلَا تُؤْكَلُ، وَتَعْلُو وَلَا تُعْلَى، وَمِنْهُ قَوْلُ تُبَّعٍ:
546
وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا تَأْكُلُ الْغَثَّ وَالسَّمِينَ وَلَا تَتْرُكُ فِيهَا لِذِي جَنَاحَيْنِ رِيشَا
هَكَذَا فِي الْبِلَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ يَأْكُلُونَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَمِيشَا
وَلَهُمْ آخِرُ الزَّمَانِ نَبِيٌّ يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيهِمْ وَالْخُمُوشَا
وَفِي الْكَشَّافِ: دَابَّةٌ تَعْبَثُ بِالسُّفُنِ وَلَا تُطَاقُ إِلَّا بِالنَّارِ. فَإِنْ كَانَ قُرَيْشٌ مِنْ مَزِيدٍ فِيهِ فَهُوَ تَصْغِيرُ تَرْخِيمٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ثُلَاثِيٍّ مُجَرَّدٍ فَهُوَ تَصْغِيرٌ عَلَى أَصْلِ التَّصْغِيرِ. الشِّتَاءُ وَالصَّيْفُ فَصْلَانِ مَعْرُوفَانِ مِنْ فُصُولِ السَّنَةِ الْأَرْبَعَةِ، وَهَمْزَةُ الشِّتَاءِ مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ، قَالُوا: شَتَا يَشْتُو، وَقَالُوا: شَتْوَةً، وَالشِّتَاءُ مُفْرَدٌ وَلَيْسَ بِجَمْعِ شَتْوَةٍ.
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الضَّحَّاكِ وَابْنِ السَّائِبِ.
وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا ظَاهِرَةٌ، وَلَا سِيَّمَا أَنْ جُعِلَتِ اللَّامُ مُتَعَلِّقَةً بِنَفْسِ فَجَعَلَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَخْفَشِ، أَوْ بِإِضْمَارِ فَعَلْنَا ذَلِكَ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الْأَخْفَشِ حَتَّى تَطْمَئِنَّ فِي بَلَدِهَا. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلِامْتِنَانِ عَلَيْهِمْ، إِذْ لَوْ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُ الْفِيلِ لَتَشَتَّتُوا فِي الْبِلَادِ وَالْأَقَالِيمِ، وَلَمْ تَجْتَمِعْ لَهُمْ كَلِمَةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّضْمِينِ فِي الشِّعْرِ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَلَّقَ مَعْنَى الْبَيْتِ بِالَّذِي قَبْلَهُ تَعَلُّقًا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ، وَهُمَا فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ سُورَةٌ وَاحِدَةٌ بِلَا فَصْلٍ. وَعَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ قَرَأَهُمَا فِي الثَّانِيَةِ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَقَرَأَ فِي الأوليين: وَالتِّينِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَهْلَكَ أَهْلَ الْحَبَشَةِ الَّذِينَ قَصَدُوهُمْ لِيَتَسَامَعَ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَيَتَهَيَّبُوهُمْ زِيَادَةَ تَهَيُّبٍ، وَيَحْتَرِمُوهُمْ فَضْلَ احْتِرَامٍ حَتَّى يَنْتَظِمَ لَهُمُ الْأَمْنُ فِي رِحْلَتِهِمْ، انْتَهَى.
قَالَ الْحَوْفِيُّ: وَرَّدَ هَذَا الْقَوْلَ جَمَاعَةٌ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ لِإِيلَافِ بَعْضَ سُورَةِ أَلَمْ تَرَ وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ مَا قَالَ، يَعْنِي الْأَخْفَشَ وَالْكِسَائِيَّ وَالْفَرَّاءَ، تَتَعَلَّقُ بِاعْجَبُوا مُضْمِرَةً، أَيْ اعَجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَتَرْكِهِمْ عِبَادَةَ رَبِّ هَذَا الْبَيْتِ، ثُمَّ أَمْرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ بَعْدُ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أطعمهم وآمنهم لا آسفهم، أَيْ فَلْيَعْبُدُوا الَّذِي أَطْعَمَهُمْ بِدَعْوَةِ أَبِيهِمْ حَيْثُ قَالَ: وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ «١»، وَآمَنَهُمْ بِدَعْوَتِهِ حَيْثُ قَالَ: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «٢»، ولا تشتغلوا
(١) سورة إبراهيم: ١٤/ ٣٧.
(٢) سورة إبراهيم: ١٤/ ٣٥.
547
بِالْأَسْفَارِ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ طَلَبُ كَسْبٍ وَعَرْضِ دُنْيَا. وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: تتعلق بقوله:
ْيَعْبُدُوا
، وَالْمَعْنَى لِأَنْ فَعَلَ اللَّهُ بِقُرَيْشٍ هَذَا وَمَكَّنَهُمْ مِنْ إلفهم هذه النعمة.
ْيَعْبُدُوا
: أَمَرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوهُ لِأَجْلِ إِيلَافِهِمْ الرِّحْلَةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ دَخَلَتِ الْفَاءُ؟ قُلْتُ: لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: إِمَّا لَا فَلْيَعْبُدُوا لِإِيلَافِهِمْ عَلَى مَعْنَى أَنَّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا تُحْصَى، فَإِنْ لَمْ يَعْبُدُوهُ لِسَائِرِ نِعَمِهِ، فَلْيَعْبُدُوهُ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي هِيَ نِعْمَةٌ ظَاهِرَةٌ، انْتَهَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، مَصْدَرُ آلَفَ رُبَاعِيًّا وَابْنُ عَامِرٍ: لِإِلَافِ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ، مَصْدَرُ أَلِفَ ثُلَاثِيًّا. يُقَالُ: أَلِفَ الرَّجُلُ الْأَمْرَ إِلْفًا وَإِلَافًا، وَآلَفَهُ غَيْرُهُ إِيَّاهُ إِيلَافًا، وَقَدْ يَأْتِي آلَفَ مُتَعَدِّيًا لِوَاحِدٍ كَأَلِفَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
مِنَ الْمُؤَلَّفَاتِ الرَّمْلِ أَدْمَاءُ حُرَّةٌ شُعَاعُ الضُّحَى فِي مَتْنِهَا يَتَوَضَّحُ
وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ فِي قِرَاءَةِ إِيلَافِهِمْ مَصْدَرًا لِلرُّبَاعِيِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِهَمْزَتَيْنِ، فِيهِمَا الثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ، وَهَذَا شَاذٌّ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَ أَبْدَلُوا الْهَمْزَةَ الَّتِي هِيَ فَاءُ الْكَلِمَةِ لِثِقَلِ اجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ، وَلَمْ يُبْدِلُوا فِي نَحْوٍ يُؤَلَّفُ عَلَى جِهَةِ اللُّزُومِ لِزَوَالِ الِاسْتِثْقَالِ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ فِيهِ، وَهَذَا الْمَرْوِيُّ عَنْ عَاصِمٍ هُوَ مِنْ طَرِيقِ الشُّمُنِّيِّ عَنِ الْأَعْشَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ النَّقَّارُ عَنْ عَاصِمٍ: إِإِيلَافِهِمْ بِهَمْزَتَيْنِ مَكْسُورَتَيْنِ بَعْدَهُمَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ لَمَّا أَشْبَعَ كَسْرَتَهَا، وَالصَّحِيحُ رُجُوعُ عَاصِمٍ عَنِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَنَّهُ قَرَأَ كَالْجَمَاعَةِ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ فِيمَا حَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ: لِإِلْفِ قُرَيْشٍ وَقَرَأَ فِيمَا حَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ إِلْفَهُمْ. قَالَ الشَّاعِرُ:
زَعَمْتُمْ أَنَّ إِخْوَتَكُمْ قُرَيْشًا لَهُمْ إِلْفٌ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَافُ
جَمَعَ بَيْنَ مَصْدَرِي أَلِفَ الثُّلَاثِيِّ. وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ عَامِرٍ: إِلَافَهُمْ عَلَى وَزْنِ فِعَالٍ. وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَابْنِ كَثِيرٍ: إِلْفَهُمْ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ، وَبِذَلِكَ قَرَأَ عِكْرِمَةُ. وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَيْضًا: لِيلَافِ بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَ اللَّامِ أَتْبَعَ، لَمَّا أَبْدَلَ الثَّانِيَةَ يَاءً حَذْفَ الْأُولَى حَذْفًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: لِيَأْلَفَ قُرَيْشٌ وَعَنْهُ أَيْضًا: لِتَأْلَفْ قُرَيْشٌ عَلَى الْأَمْرِ، وَعَنْهُ وَعَنْ هِلَالِ بْنِ فِتْيَانَ: بِفَتْحِ لَامِ الْأَمْرِ، وَأَجْمَعُوا هُنَا عَلَى صَرْفِ قُرَيْشٍ، رَاعَوْا فِيهِ مَعْنَى الْحَيِّ، وَيَجُوزُ مَنْعُ صَرْفِهِ مَلْحُوظًا فِيهِ مَعْنَى الْقَبِيلَةِ لِلتَّأْنِيثِ وَالْعَلَمِيَّةِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَكَفَى قُرَيْشَ الْمُعْضِلَاتِ وَسَادَهَا جَعَلَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ سِيبَوَيْهِ فِي نَحْوِ مَعَدَّ وَقُرَيْشَ وَثَقِيفَ، وَكَيْنُونَةُ هَذِهِ لِلْأَحْيَاءِ أَكْثَرُ،
548
وَإِنْ جَعَلْتَهَا اسْمًا لِلْقَبَائِلِ فَجَائِزٌ حَسَنٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: رِحْلَةَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَأَبُو السَّمَّالِ: بِضَمِّهَا، فَبِالْكَسْرِ مَصْدَرٌ، وَبِالضَّمِّ الْجِهَةُ الَّتِي يُرْحَلُ إِلَيْهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُمَا رِحْلَتَانِ. فَقِيلَ: إِلَى الشَّامِ فِي التِّجَارَةِ وَنَيْلِ الْأَرْبَاحِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
سَفَرَيْنِ بَيْنَهُمَا لَهُ وَلِغَيْرِهِ سَفَرَ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةَ الْأَصْيَافِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رِحْلَةٌ إِلَى الْيَمَنِ، وَرِحْلَةٌ إِلَى بُصْرَى. وَقَالَ: يَرْحَلُونَ فِي الصَّيْفِ إِلَى الطَّائِفِ حَيْثُ الْمَاءُ وَالظِّلُّ، وَيَرْحَلُونَ فِي الشِّتَاءِ إِلَى مَكَّةَ لِلتِّجَارَةِ وَسَائِرِ أَغْرَاضِهِمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَرَادَ رِحْلَتَيِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَأَفْرَدَ لِأَمْنِ الْإِلْبَاسِ، كَقَوْلِهِ:
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
انْتَهَى، وَهَذَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي الضَّرُورَةِ، وَمِثْلُهُ:
حَمَامَةَ بَطْنِ الْوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي يُرِيدُ: بَطْنَيِ الْوَادِيَيْنِ، أَنْشَدَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى الضَّرُورَةِ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: كَانَتْ لَهُمْ أَرْبَعُ رِحَلٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ. انْتَهَى، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرِدَ، فَإِنَّ أَصْحَابَ الْإِيلَافِ كَانُوا أَرْبَعَةَ إِخْوَةٍ وَهُمْ: بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ هَاشِمٌ، كَانَ يُؤَلِّفُ مَلِكَ الشَّامِ، أَخَذَ مِنْهُ خَيْلًا، فَأَمِنَ بِهِ فِي تِجَارَتِهِ إِلَى الشَّامِ، وَعَبْدُ شَمْسٍ يُؤَلِّفُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَالْمُطَّلِبُ إِلَى الْيَمَنِ وَنَوْفَلٌ إِلَى فَارِسَ. فَكَانَ هَؤُلَاءِ يُسَمَّوْنَ المجيرين، فَتَخْتَلِفُ تَجْرُ قُرَيْشٍ إِلَى الْأَمْصَارِ بِحَبْلِ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةِ، فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْإِيلَافُ شِبْهُ الْإِجَارَةِ بِالْخِفَارَةِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ رِحَلٌ أَرْبَعٌ، بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي كَانَتِ التُّجَّارُ فِي خِفَارَةِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِيهَا، وَفِيهِمْ يَقُولُ الشَّاعِرُ يَمْدَحُهُمْ:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُحَوِّلُ رَحْلَهُ هَلَّا نَزَلْتَ بِآلِ عَبْدِ مَنَافِ
الْآخِذُونَ الْعَهْدَ مِنْ آفَاقِهَا وَالرَّاحِلُونَ لِرِحْلَةِ الْإِيلَافِ
وَالرَّائِشُونَ وَلَيْسَ يُوجَدُ رَائِشٌ وَالْقَائِلُونَ هَلُمَّ لِلْأَضْيَافِ
وَالْخَالِطُونَ غَنِيَّهُمْ لِفَقِيرِهِمْ حَتَّى يَصِيرَ فَقِيرُهُمْ كَالْكَافِ
فَتَكُونُ رِحْلَةَ هُنَا اسْمَ جِنْسٍ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَلِأَكْثَرَ، وَإِيلَافُهُمْ بَدَلٌ مِنْ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، أَطْلَقَ الْمُبْدَلَ مِنْهُ وَقَيَّدَ الْبَدَلَ بِالْمَفْعُولِ بِهِ، وَهُوَ رِحْلَةٌ، أَيْ لِأَنْ أَلِفُوا رِحْلَةً تَفْخِيمًا لِأَمْرِ الْإِيلَافِ وَتَذْكِيرًا بِعَظِيمِ النِّعْمَةِ فيه. ذَا الْبَيْتِ
: هُوَ الْكَعْبَةُ، وَتَمَكَّنَ هُنَا هَذَا اللَّفْظُ لِتَقَدُّمِ حِمَايَتِهِ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَمِنْ هُنَا لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِ الْجُوعِ. كَانُوا قُطَّانًا بِبَلَدٍ
549
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عُرْضَةً لِلْجُوعِ وَالْخَوْفِ لَوْلَا لُطْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ، وَذَلِكَ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ تَعَالَى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ «١». وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ: فَضَّلَهُمْ عَلَى الْعَرَبِ بِكَوْنِهِمْ يَأْمَنُونَ حَيْثُ مَا حَلُّوا، فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ قُطَّانُ بَيْتِ اللَّهِ، فَلَا يَتَعَرَّضُ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ، وَغَيْرُهُمْ خَائِفُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ: مَعْنَاهُ مِنَ الْجُذَامِ، فَلَا تَرَى بِمَكَّةَ مَجْذُومًا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالتَّنْكِيرُ فِي جُوعٍ وَخَوْفٍ لِشِدَّتِهِمَا، يَعْنِي أَطْعَمَهُمْ بِالرِّحْلَتَيْنِ مِنْ جُوعٍ شَدِيدٍ كَانُوا فِيهِ قَبْلَهُمَا، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ عَظِيمٍ، وَهُوَ خَوْفُ أَصْحَابِ الْفِيلِ، أَوْ خَوْفُ التَّخَطُّفِ فِي بَلَدِهِمْ وَمَسَايِرِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ خَوْفٍ، بِإِظْهَارِ النُّونِ عِنْدَ الْخَاءِ، وَالْمُسَيَّبِيُّ عَنْ نَافِعٍ: بِإِخْفَائِهَا، وَكَذَلِكَ مَعَ الْعَيْنِ، نَحْوَ مِنْ عَلَى، وَهِيَ لُغَةٌ حَكَاهَا سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَسْلَتِ يُخَاطِبُ قُرَيْشًا:
فَقُومُوا فَصِلُوا رَبَّكُمْ وَتَمَسَّحُوا بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الْأَخَاشِبِ
فَعِنْدَكُمْ مِنْهُ بَلَاءٌ وَمُصَدِّقٌ غَدَاةَ أَبَى مَكْسُومٍ هَادِي الْكَتَائِبِ
كَثِيبَةٌ بِالسَّهْلِ تَمْشِي وَرِحْلَةٌ عَلَى الْعَادِقَاتِ في رؤوس الْمَنَاقِبِ
فَلَمَّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدَّهُمْ جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سَاقٍ وَحَاجِبِ
فَوَلَّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يَؤُبْ إِلَى أَهْلِهِ مِلْجَيْشِ غير عصائب
(١) سورة القصص: ٢٨/ ٥٧.
550
Icon