ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)﴾.التفسير وأوجه القراءة
١ - و ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١)﴾ متعلقة (١) بقوله تعالى في آخر السورة: ﴿فَلْيَعْبُدُوا﴾ وهو قول الزجاج، أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم رحلتين، ودخلت ﴿الفاء﴾؛ لما في الكلام من معنى الشرط؛ إذ المعنى: إن نعم الله عليهم غير محصورة، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة التي هي إيلافهم الرحلتين، فإنها أظهر نعمة عليهم؛ أي: فليعبدوا رب هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف؛ أي: ليجعلوا عبادتهم شكرًا لهذه النعمة، فالإيلاف مصدر مضاف إلى مفعوله الأول مطلقًا عن المفعول الثاني الذي هو الرحلة كما قيد به في الإيلاف الثاني، والمعنى (٢): لتأليف الله لهم؛ أي: لتحبيبه لهم الرحلتين؛ أي: لجعلهم آلفين ومحبين لهما مسترزقين بهما؛ لتيسيرهما عليهم فليعبدوه شكرًا له.
وقيل (٣): متعلقة بآخر السورة التي قبلها، كأنها قال سبحانه: أهلكت أصحاب الفيل؛ لأجل إيلاف قريش هاتين الرحلتين ولزومهم إياهما؛ أي: أهلكت من قصدهم من الحبشة؛ لأجل أن يألفوا هاتين الرحلتين ويجمعوا بينهما، ويلزموا إياهما ويثبتوا عليهما متصلًا لا منقطعًا، بحيث إذ فرغوا من هذه أخذوا في هذه وبالعكس، وذلك لأن الناس إذا تسامعوا بذلك الإهلاك تهيبوا لهم زيادة تهيب واحترموهم فضل احترام، فلا يجترىء عليهم أحد فينتظم لهم الأمن في رحلتيهم، وكان لقريش رحلتان يرحلون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فيمتارون ويتجرون، وكانوا في رحلتيهم آمنين؛ لأنهم أهل حرم الله تعالى وولاة بيته العزيز، فلا يتعرض لهم، والناس حولهم بين متخطف ومنهوب، وذلك أن قريشًا إذا أصاب واحدًا منهم مخمصة خرج هو وعياله إلى موضع، وضربوا على أنفسهم خباء
(٢) الفتوحات.
(٣) روح البيان.
الْمُنْعِمِيْنَ إِذَا النُّجُوْمُ تَغَيَّرَتْ | وَالظَّاعِنِيْنَ لِرِحْلَةِ الإِيْلَافِ |
زَعَمْتُمْ أَنَّ إِخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ | لَهُمْ إِلْفٌ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلَافُ |
ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين (٢): أن القراء اختلفوا في سقوط الياء وثبوتها في الأول في اتفاق المصاحف على إثباتها خطًا، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها منه خطًا؛ فهو أدل دليل على أن القراء
(٢) الفتوحات.
وقرأ عاصم في رواية: ﴿إئلافهم﴾ بهمزتين، الأولى مكسورة والثانية ساكنة وهي شاذة؛ لأنه يجب في مثله إبدال الثانية حرفًا مجانسًا كإيمان، وروي عنه أيضًا بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة، وخُرِّجت على أنه أشبع كسرة الهمزة الثانية، فتولد منها ياء، وهذه أشذ من الأولى، ونقل أبو البقاء أشذ منها، فقال بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة بعدها همزة مكسورة وهو بعيد، ووجهها: أنه أشبع الكسرة، فنشأت الياء، وقصد بذلك الفصل بين الهمزتين، كالألف في ﴿أأنذرتهم﴾، وعن أبي جعفر وابن كثير: ﴿إلفهم﴾، وعن أبي جعفر أيضًا، وعن ابن عامر: ﴿إلافهم﴾ مثل كتابهم، وعن ابن عامر أيضًا: ﴿ليلاف﴾ بياء ساكنة بعد اللام، وقرأ عكرمة: ﴿ليألف قريش﴾ فعلًا مضارعًا، وعنه أيضًا ﴿ليألف﴾ على الأمر واللام مكسورة، وعنه فتحها مع الأمر، وهي لغة كما مر اهـ "سمين".
و ﴿قُرَيْشٍ﴾ مصغرًا، هم ولد النضر بن كنانة، فكل من ولده النضر فهو قريش دون من لم يلده النضر، وإن ولده كنانة وهو الصحيح، وقيل: هم، ولد فهو بن مالك بن النضر بن كنانة، فمن لم يلده فهو فليس بقريش، وإن ولده النضر، فوقع الاتفاق على أن بني فهو قرشيون، وعلى أن بني كنانة الذين لم يلدهم النضر ليسوا بقرشيين، ووقع الخلاف في بني النضر وبني مالك، وفهر هو الجد الحادي عشر من أجداده - ﷺ -، والنضر هو الثالث عشر، ويسمى فهر قريشًا أيضًا، وذلك لأنه - ﷺ - محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، واسمه قريش بن مالك بن النضر بن كنانة إلى آخر النسب الشريف اهـ من "المواهب".
واختُلف في اشتقاقهم على أوجه (١):
أحدها: أنه من التقريش، وهو التجمع، سموا بذلك لاجتماعهم إلى الحرم بعد افتراقهم، قال الشاعر:
أَبُوْنَا قُرَيْشٌ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا | بِهِ جَمَّعَ الله الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرِ |
والثالث: أنه من التقريش بمعنى التفتيش، يقال: قرش، يقرش عني؛ أي: فتش، وكانت قريش يفتشون على ذوي الخلاف من الحجاج وغيرهم ليسدوا خلتهم، قال الشاعر:
أَيُّهَا الشَّامِتُ الْمُقَرِّشُ عَنَّا | عِنْدَ عَمْروِ وَهَلْ لِذَاكَ بَقَاءُ |
قال الزمخشري: سمعت (١) بعض التجار بمكة ونحن قعود عند باب بني شيبة يصف لي القرش، فقال: مدور الخلقة كما بين مقامنا هذا إلى الكعبة، ومن شأنه أن يتعرض للسفن الكبار، فلا يرده شيء إلا أن يأخذ أهلها المشاعل، فيمر على وجهه كالبرق، وكل شيء عنده قليل إلا النار، وبه سميت قريش، قال الشاعر:
وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِيْ تَسْكُنُ الْبَحْـ | ـرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا |
تَأْكُلُ الْغَثَّ وَالْسَّمِيْنَ وَلاَ تَتْـ | ـرُكُ فِيْهِ لِذِيْ جَنَاحَيْنِ رِيْشَا |
هَكَذَا في الْبِلَادِ حَيُّ قُرَيْشٍ | يَأَكُلُوْنَ الْبِلَادَ أَكْلًا كَمِيْشَا |
وَلَهُمْ آخِرَ الزَّمَانِ نَبِيٌّ | يُكْثِرُ الْقَتْلَ فِيْهِمُ وَالْخُمُوْشَا |
٢ - وقوله: ﴿إِيلَافِهِمْ﴾ بدل من ﴿إيلاف قريش﴾ وقيل: إنه تأكيد له، والأول
(٢) الفتوحات.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿رِحْلَةً﴾ - بكسر الراء - وأبو السمال بضمها، فبالكسر مصدر، وبالضم الجهة التي يرحل إليها كما مر آنفًا، والجمهور على أنها رحلتان، فقيل: إلى الشام في التجارة وقيل الأرباح، ومنه قول الشاعر:
سَفَرَيْنِ بَيْنَهُمَا لَهُ وَلغَيْرِهِ | سَفَرُ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةُ الأَصْيَافِ |
رَبِيْعُ صَيْفٍ مِنَ الأَزْمَانِ | خَرِيْفُ شِتَاءٍ فَخُذْ بَيَانِيْ |
والحاصل: أنه كان (٣) لقريش رحلتان: رحلة في الشتاء إلى اليمن؛ لأنه أدفأ، وفي الصيف إلى الشام؛ لأنه أبرد، فكانت أشراف أهل مكة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين، ويأتون لأهل بلدهم ما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب، وإنما كانوا يربحون في أسفارهم؛ لأن ملوك النواحي كانوا يعظمون أهل مكة، ويقولون: هؤلاء جيران بيت الله وسكان حرمه وولاة الكعبة، حتى إنهم كانوا يسمون أهل مكة أهل الله، فلو تم للحبشة ما عزموا عليه من هدم الكعبة.. لزال عنهم هذا العز، ولبطلت تلك المزايا من التعظيم والاحترام، ولصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يُتخطفون من كل جانب، ويتعرض لهم في نفوسهم وأموالهم، فلما أهلك الله أصحاب الفيل.. ازداد شرف أهل مكة في القلوب، وازداد تعظيم ملوك الأطراف
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح.
وقيل: إن المراد رحلة الناس إلى أهل مكة، فرحلة الشتاء والصيف عمرة رجب وحج ذي الحجة؛ لأنه كان أحدهما شتاءً والآخر صيفًا، وموسم منافع مكة يكون بهما، ولو كان تم لأصحاب الفيل ما أرادوا لعُطِّلت هذه المنفعة.
قيل: وأول من سن (١) لهم الرحلة هاشم بن عبد مناف، وكانوا يقسمون ربحهم بين الغني والفقير، حتى كان فقيرهم كغنيهم، واتبع هاشمًا على ذلك إخوته، فكان هاشم يؤالف إلى الشام، وعبد شمس إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وكان تجار قريش يختلفون إلى هذه الأمصار بجاه هؤلاء الإخوة؛ أي: بحهودهم التي أخذوها بالأمان لهم من ملك كل ناحية من هذه النواحي اهـ "خطيب".
٣ - و ﴿الفاء﴾ في قوله: ﴿فَلْيَعْبُدُوا﴾ واقعة في جواب شرط مقدر، كما في "السمين" تقديره: إن لم يعبدوه لسائر نعمه عليهم فليعبدوا ﴿رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ﴾ العتيق؛ لإيلافهم هاتين الرحلتين؛ أي: لتأليف الله وتمكينه لهم من هاتين الرحلتين؛ أي: لتحبيبه لهم الرحلتين؛ أي: لجعله إياهم آلفين ومحبين لهما مسترزقين بهما لتيسيرهما عليهم، وقيل: ﴿الفاء﴾ زائدة، ولذلك جاز تقديم معمول ما بعدها عليها، قاله الشهاب، والأول أصح.
﴿وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ عظيم لا يقادر قدره، وهو خوف أصحاب الفيل، أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم، وقال صاحب "الكشاف": الفرق بين عن ومن أن عن يقتضي حصول جوع قد زال بالإطعام، ومن يقتضي المنع من لحاق الجوع، ولذلك اختارها هنا.
والمعنى (١): أطعمهم فلم يلحقهم جوع، وآمنهم فلم يلحقهم خوف، فتكون ﴿مِنْ﴾ لابتداء الغاية.
والخلاصه: أطعمهم في بدء جوعهم قبل لحاقه إياهم وآمنهم في بدء خوفهم قبل اللحاق، وقيل في معنى الآية: إنهم لما كذبوا محمدًا - ﷺ - دعا عليهم، فقال: اللهم اجعلها سنينًا كسني يوسف، فاشتد عليهم القحط، وأصابهم الجهد والجوع، فقالوا: يا محمد ادع الله لنا، فإنا مؤمنون، فدعا رسول الله - ﷺ - وأخصبت البلاد، وأخصب أهل مكة بدل القحط والجهد، فذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)﴾ لمكان الحرم، وكونهم من أهل مكة، حتى لا يتعرض لهم أحد، قال ابن زيد: كان العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها بعضًا، فآمن قريشًا لمكان الحرم، وقيل: آمنهم من خوف الجذام، فلا ترى بمكة مجذومًا،
وقرأ الجمهور: ﴿مِنْ خَوْفٍ﴾ بإظهار النون عند الخاء، والمسيبي عن نافع بإخفائهما، وكذلك مع العين نحو من علي، وهي لغة حكاها سيبويه.
وخلاصة معنى قوله: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣)﴾؛ أي: فلتعبد (٢) قريش ربها شكرًا له أن جعلهم قومًا تَجْرًا ذوي أسفار في بلاد غير ذات زرع ولا ضرع، لهم رحلتان رحلة إلى اليمن شتاء لجلب الأعطار والأفاويه التي تأتي من بلاد الهند والخليج الفارسي إلى تلك البلاد، ورحلة في الصيف إلى بلاد الشام؛ لجلب الحاصلات الزراعية إلى بلادهم المحرومة منها.
وقد كان العرب يحترمونهم في أسفارهم؛ لأنهم جيران بيت الله وسكان حرمه وولاة الكعبة، فيذهبون امنين ويعودون سالمين لا يمسهم أحد بسوء على كثرة ما كان بين العرب من السلب والنهب والغارات التي لا تنقطع، فكان احترام البيت ضربًا من القوة المعنوية التي تحتمي بها قريش في الأسفار، فلهذا ألفتها نفوسهم وتعلقت بالرحيل استدرارًا للرزق، وهذا الإجلال الذي ملك قلوب العرب ونفوسهم من البيت الحرام إنما هو من تسخير رب البيت سبحانه، وقد حفظ حرمته، وزادها في نفوس العرب، رد الحبشة عنه حين أرادوا هدمه وإهلاكهم قبل أن ينقضوا منه حجرًا بل قبل أن يدنوا منه، ولو نزلت مكانة البيت من نفوس العرب، ونقصت حرمته عندهم، واستطالت الأيدي على سفارهم.. لنفروا من تلك الرحلات، فقلَّت وسائل الكسب بينهم؛ لأن أرضهم ليست بذات زرع ولا ضرع، وما هم بأهل صناعة مشهورة يحتاج إليها الناس فيأتوهم، وهم في عقر ديارهم ليأخذوا منها، فكانت تضيق عليهم مسالك الأرزاق، وينقطع عنهم ينابيع الخيرات.
﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣)﴾ الذي حماها من الحبشة وغيرهم، ومكن
(٢) المراغي.
وإذا كانوا يعرفون أن هذا كله بفضل رب هذا البيت، فلم يتوسلون إليه بتعظيم غيره وتوسيط سواه عنده، مع أنه لا فضل لأحد ممن يوسطونه في شيء من النعمة التي هم فيها، نعمة الأمن ونعمة الرزق وكفاية الحاجة، وقال ابن الأسلت يخاطب قريشًا:
فقوموا فصَلُّوا ربكم وتمسحوا | بأركان هذا البيت بين الأخاشب |
فعندكمُ منه بلاء ومصدق | غداة أبي يكسوم هادي الكتائب |
كتيبتُه بالسهل تمشي ورحلة | على العادقات في رؤوس المناقب |
فلما أتاكم نصر ذي العرش رَدَّهم | جنود مليء بين ساق وحاجب |
فوَلَّوا سراعًا هاربين ولم يَؤُبْ | إلى أهله مجليش غير عصائب |
﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)﴾.
﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١)﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بقوله: ﴿فَلْيَعْبُدُوا﴾ ﴿إِيلَافِهِمْ﴾: بدل من ﴿إيلاف﴾ الأول بدل مقيد من مطلق، وهو مصدر مضاف إلى فاعله. ﴿رِحْلَةَ الشِّتَاءِ﴾: مفعوله؛ ﴿وَالصَّيْفِ﴾: معطوف على ﴿الشِّتَاءِ﴾، أو مضاف إلى مفعوله الأول؛ أي: إيلافنا إياهم رحلة الشتاء والصيف، وتمكيننا إياهم من رحلتين. ﴿فَلْيَعْبُدُوا﴾ ﴿الفاء﴾: واقعة في جواب شرط محذوف تقديره: إن لم يعبدوا الله لسائر نعمه السابغة المترادفة عليهم، فليعبدوه لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، وهي نعمة سابغة أتاحت لهم الإتجار، وضمنت لهم ميسور الرزق،
التصريف ومفردات اللغة
﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١)﴾ والإيلاف إما مصدر آلف الرباعي بوزن أكرم، تقول: آلف يؤلف إيلافًا، فهو مُؤْلِف، مثل آمن يؤمن إيمانًا فهو مؤمن، وعلى هذا يكون أصله: إئلافًا بوزن إفعال كإكرام؛ لأن آلف أصله: أألف، ومصدره: إئلاف بوزن إفعال، فأُبدلت الهمزة الساكنة في المصدر ياء؛ لكسر ما قبلها، فصار: إيلافًا، وهذا على قراءة من قرأ: ﴿لِإِيلَافِ﴾ بالياء، وأما على قراءة من قرأ ﴿إِلْفِهِمْ﴾، أو ﴿إلافِهِم﴾ بلا ياء، فهو مصدر لأَلِفَ الثلاثي، يقال: ألف يالف إلفًا، كعلم يعلم علمًا، فهو عالم، والأمر من الممدود الف يا زيد، ومن المقصور: إيلف يا زيد، تقول: ألفت الشيء إلفًا وإلافًا من الثلاثي، وآلفته إيلافًا من الرباعي إذا لزمته وعكفت عليه من الإنس به وعدم النفور منه، والإيلاف إيجاب الإلْف بحسن التدبير والتلطف، فالإيلاف نقيض الإيحاش ونظير الإيلاف: الإيناس.
﴿رِحْلَةَ﴾ والرِحلة - بالكسر - ارتحال القوم؛ أي: شدهم الرحال للمسير، وبالضم الجهة التي يُرتَحَل إليها، وأصل الرحلة السير على الراحلة؛ وهي الناقة القوية، ثم استُعمل في كل سير وارتحال، وإفرادها مع أنه أراد رحلتي الشتاء والصيف؛ لأمن الإلباس مع تناول اسم الجنس للواحد والكثير، كما مر.
﴿الشِّتَاءِ﴾ والشتاء الفصل المقابل للصيف، وفي "القاموس": الشتاء: أحد أرباع الأزمنة والموضع المشتي، وفيه إعلال الإبدال أصله: الشتاو من شتا يشتو، أبدلت الواو همزة لوقوعها متطرفة إثر ألف زائدة.
﴿وَالصَّيْفِ﴾ والصيف: القيظ، أو بعد الربيع، والقيظ صميم الصيف من طلوع الثريا إلى طلوع سهيل.
﴿رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ﴾؛ أي: وسَّع لهم الرزق، ومهد لهم سبيله.
﴿وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾؛ أي: جعلهم في أمن من التعدي عليهم، والتطاول إلى أموالهم وأنفسهم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: تقديم الجار والمجرور في قوله: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١)﴾ على عامله في قوله: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣)﴾ تذكيرًا للنعمة واعتناء ببيانها.
ومنها: تصغير لفظ ﴿قُرَيْشٍ﴾؛ للتعظيم، فكأنه قيل: قريش عظيم على ما قيل، والأوجه أن التصغير على حقيقته ومعناه، كما مر.
ومنها: إطلاق الإيلاف عن المفعول أولًا في قوله: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١)﴾ ثم
النعمة فيه.
ومنها: الطباق بين ﴿الشِّتَاءِ﴾ و ﴿الصيف﴾ في قوله: ﴿رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾ وبين الجوع والإطعام في قولهم: ﴿أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ﴾ وبين الأمن والخوف في قوله: ﴿وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾.
ومنها: الإضافة لتشريف المضاف إليه وتكريمه في قوله: ﴿رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣)﴾.
ومنها: التنكير في لفظة ﴿جُوعٍ﴾ ولفظة ﴿خَوْفٍ﴾؛ لبيان شدتهما وعظمهما؛ أي: جوع شديد وخوف عظيم.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
فائدة: قال الإِمام الرازي في "تفسيره": اعلم أن الإنعام على قسمين:
أحدهما: دفع ضر، وهو ما ذكره في سورة الفيل.
والثاني: جلب النفع، وهو ما ذكره في هذه السورة، ولما دفع الله سبحانه عنهم الضر وجلب لهم النفع، وهما نعمتان عظيمتان.. أمرهم بالعبودية في قوله:
﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣)﴾ | الآيات، أداء لشكر هذه النعمة العظيمة (١). |
* * *
سورة الماعون، ويقال لها سورة الدين، وسورة اليتيم، وهي نزلت بعد سورة التكاثر في قول عطاء وجابر وأحد قولي ابن عباس، ومدنية في قول قتادة وآخرين.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة: أريت الذي يكذب بالدين بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وقيل: نزل نصفها بمكة في العاص بن وائل، والنصف الثاني بالمدينة في عبد الله ابن أبي ابن سلول المنافق.
وآياتها: سبع، وكلماتها: خمس وعشرون، وحروفها: مئة وخمسة وعشرون حرفًا.
المناسبة: ومناسبتها لما قبلها (١): من ثلاث أوجه:
١ - أنه قال في السورة السابقة: ﴿أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ﴾، وذم في هذه من لم يحض على إطعام المسكين.
٢ - أنه قال في السورة السابقة: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣)﴾، وهنا ذم من سها عن صلاته.
٣ - أنه هناك عدد نعمه على قريش، وهم مع ذلك ينكرون البعث ويجحدون الجزاء، وهنا أتبعه بتهديدهم وتخويفهم من عذابه.
الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الماعون كلها محكمة ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وسميت سورة الماعون؛ لذكر الماعون فيها.
فضلها: وروي في فضلها: أنه - ﷺ - قال: "من قرأ سورة أرأيت غفر الله له إن كان للزكاة مؤديًا"، وفيه مقال.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *