ﰡ
ولما كانوا ينكرون البعث، ويعتقدون دوام - الإقامة في القبور، عبر بالزيارة إشارة إلى أن البعث لا بد منه ولا مرية فيه، وأن اللبث في البرزخ وإن طال فإنما هو كلبث الزائر عند مزوره في جنب الإقامة بعد البعث في دار النعيم أو غار الجحيم، وأن الإقامة فيه محبوبة للعلم بما بعده من الأهوال والشدائد والأوجال، فقال: ﴿حتى﴾ أي استمرت مباهاتكم ومفاخرتكم إلى أن ﴿زرتم المقابر *﴾ أي بالموت والدفن، فكنتم فيها عرضة للبعث لا تتمكنون من عمل ما ينجيكم لأن دار العمل فاتت كما أن الزائر ليس بصدد العلم عند المزور، لا يمكثون بها إلا ريثما يتكمل المجموعون بالموت كما أن الزائر معرض للرجوع
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تقدم ذكر القارعة وعظيم أهوالها، أعقب بذكر ما شغل وصد عن الاستعداد لها وألهى عن ذكرها، وهو التكاثر بالعدد والقرابات والأهلين فقال: ﴿ألهاكم التكاثر﴾ وهو في معرض التهديد والتقريع وقد أعقب بما يعضد ذلك وهو قوله ﴿كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون﴾ ثم قال: ﴿كلا لو تعلمون علم اليقين﴾ وحذف جواب «لو» والتقدير: لو تعلمون علم اليقين لما شغلكم التكاثر، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» الحديث، وقوله تعالى «لترون الجحيم» جواب لقسم مقدر أي والله لترون الجحيم، وتأكد بها التهديد وكذا ما بعد
ولما كان الاشتغال بالتكاثر في غاية الدلالة على السفه لأن من المعلوم قطعاً أن هذا الكون على هذا النظام لا يكون إلا بصانع حكيم، وكان العقلاء المنتفعون بالكون في غاية التظالم، وكان الحكيم لا يرضى أصلاً أن يكون عبيده يظلم بعضهم بعضاً ثم لا يحكم بينهم ولا ينظر في مصالحهم علم قطعاً أنه يبعثه ليحكم بينهم لأنه كما قدر على إبدائهم يقدر على إعادتهم، وقد وعد بذلك وأرسل به رسله وأنزل به كتبه، فثبت ذلك ثبوتاً لا مرية فيه ولا مزيد عليه، وكان الحال مقتضياً لأن يردع غاية الردع من أعرض عما يعنيه وأقبل على ما لا يعنيه، فقال سبحانه معبراً بأم الروادع، وجامعة الزواجر والصوادع: ﴿كلا﴾ أي ارتدعوا أتم ردع وانزجروا أعظم زجر عن الاشتغال بما لا يجدي، فإنه ليس الأمر كما تظنون من أن الفخر في المكاثرة بالأعراض الدنيوية ولم تخلقوا لذلك، إنما خلقتم لأمر عظيم، فهو الذي يهمكم فاشتغلتم عنه بما لا يهمكم - فكنتم لاهين كمن كان يكفيه كل يوم درهم فاشتغل بتحصيل أكثر، وكذا من ترك المهم من التفسير واشتغل بالأقوال الشاذة أو ترك المهم من الفقه واشتغل بنوادر الفروغ وعلل النحو وغيرها وترك
ولما كان الردع لا يكون إلا عن ضار يجر وبالاً وحسرة، دل على ذلك بقوله استئنافاً: ﴿سوف﴾ أي بعد مهلة طويلة يتذكر فيها من تذكر ﴿تعلمون *﴾ أي يتجدد لكم العلم بوعد لا خلف فيه بما أنتم عليه من الخطإ عند معاينة ما يكشفه الموت ويجر حزنه الفوت من عاقبة ذلك ووباله.
ولما كان من الأمور ما لو شرح شأنه على ما هو عليه لطال وأدى إلى الملال، دل على أن شرح هذا الوعيد مهول بقوله مؤكداً مع التعبير بأداة التراخي الدالة على علو الرتبة: ﴿ثم كلا﴾ أي ارتدعوا ارتداعاً أكبر من ذلك لأنه ﴿سوف تعلمون *﴾ أي يأتيكم العلم من غير شك وإن تأخر زمنه يسيراً بالبعث.
ولما كان هذا أمراً صادعاً، أشار إلى أنه يكفي هذه الأمة المرحومة التأكيد بمرة، فقال مردداً للأمر بين تأكيد الردع ثالثاً بالأداة الصالحة له ولأن تكون لمعنى - حقاً كما يقوله ائمة القراءة: ﴿كلا﴾ أي - ليشتد ارتداعهم عن التكاثر فإنه أساس كل بلاء فإنكم ﴿لو تعلمون﴾ أيها المتكاثرون.
ولما كان العلم قد يطلق على الظن رفع مجازه بقوله: ﴿علم اليقين *﴾ أي لو يقع لكم علم على - وجه اليقين
ولما كان هذا توعداً على التكاثر لأنه يقتضي الإعراض عن الآخرة
ولما كان من أهول الخطاب التهديد برؤية العذاب، زاد في التخويف بأنه لأجل أن يكون ما يعذب به العاصي عتيداً، فإذا أوجب السؤال النكال كان حاضراً لا مانع من إيقاعه في الحال، ولو لم يكن حاضراً كان لمن استحقه في مدة إحضاره محال، فقال مفخماً بأداة التراخي: ﴿ثم﴾ أي بعد أمور طويله عظيمة مهولة جداً ﴿لتسئلن﴾ وعزتنا ﴿يومئذ﴾ أي إذ ترون الجحيم ﴿عن النعيم *﴾ أي الذي أداكم التكاثر إليه حتى عن الماء البارد في الصيف والحار في
«إن هذا من النعيم الذي تسألون عنه: ظل بارد ورطب طيب وماء بارد» وقد يكون للكمال فيكون من أعلام النبوة كما في حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه عند أحمد من وجه حسن إن شاء الله أنهم قالوا عند نزولها: أي نعيم وإنما هما الأسودان: التمر والماء، وسيوفنا على رقابنا والعدو حاضر، قال: «إن ذلك سيكون» له شاهد عند الطبراني عن ابن الزبير رضي الله عنهما، وعند الطبراني أيضاً عن الحسن البصري مرسلاً، فقد التحم آخرها بأولها على وجه هو من ألطف الخطاب، وأدق المسالك في النهي عما يجر إلى العذاب، لأن العاقل إذا علم أن بين يديه سؤالاً عن كل ما يتلذذ به علم أنه يعوقه
قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: إنها سورة لو لم ينزل إلى الناس إلا هي لكفتهم، وهو معنى قول غيره: " إنها شملت جميع علوم القرآن، مقصودها تفضيل نوع الإنسان المخلوق من علق، وبيان خلاصته وعصارته وهم الحزب الناجي يوم السؤال عن زكاء الأعمال بعد الإشارة إلى أضدادهم، والإعلام بما ينجي من الأعمال والأحوال بترك الفاني والإقبال على الباقي لأنه خلاصة اتلكون ولباب الوجود، واسمها العصر واضح في ذلك فإن العصر يخلص روح المعصور ويميز صفاوته، ولذلك كان وقت هذا النبي الخاتم الذي هو خلاصة الخلق وقت العصر، وكانت صلاة العصر أفضل الصلوات، وبيان اشتمالها على علوم القرآن تنزيل جملتها على ما قال الغزالي: إن القرآن كالبحر الذي فيه جزائر