مكية، وهي ثماني آيات.
ولما ذكر أهوال القارعة ذكر ما ألهى الناس عن الاستعداد لها، فقال :
بسم الله الرحمان الرحيم :
﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ ﴾*﴿ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾*﴿ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾*﴿ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾*﴿ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴾*﴿ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾*﴿ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴾*﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾.
ﰡ
قال عبد الله بن الشخِّير : قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ ألهاكم التكاثر ﴾ فقال :" يقول ابن آدم : ما لي، وليس له من ماله إلا ثلاث : ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تَصَدَّق فأبقى " ١ وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس. واللام في ( التكاثر ) للعهد الذهني، وهو التكاثر بما يشغل عن الله، فلا يشمل التكاثر في العلوم والمعارف والطاعات والأخلاق، فإنَّ ذلك مطلوب ؛ لأنَّ بذلك تُنال السعادة في الدارين، وقرينة ذلك قوله تعالى :﴿ ألهاكم ﴾ فإنه خاص بما يُلهي عن ذكر الله، والاستعداد للآخرة، حتى إنه لو تناول الدنيا على ذكر الله لم تُذمّ، وليست بلهو حينئذ، ولذلك جاء :" الدنيا ملعونةٌ ملعون ما فيها، إلاّ ذكر الله وما والاه " ٢ قال الإمامُ : ولم يقل : ألهاكم التكاثر عن كذا، بل تركه مطلقاً ؛ ليدخل تحته جميع ما يحتمله اللفظ، فهو أبلغ ؛ لأنه يذهب فيه الوهم كُلَّ مذهب، أي : ألهاكُم عن ذكر الله، وعن التفكّر في أمور القارعة، وعن الاستعداد لها، وغير ذلك. ه.
وقال ابن عطية في قول :﴿ حتى زُرتم المقابرَ ﴾ : عن عمر بن عبد العزيز، قال : الآية تأنيب عن الإكثار من زيارة القبور تكثُّراً بمَن سلف، وإشادة عن ذكره، وقد قال صلى الله عليه وسلم :" كنت نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها، ولا تقولوا هُجْراً " ٣ فكان نهيه صلى الله عليه وسلم في معنى الآية، ثم أباح بَعْدُ للاتعاظ، لا لمعنى المباهاة والافتخار، كما يصنع الناس في ملازمتها وتعليتها بالحجارة والرخام، وتلوينها شرفاً، وبنيان النواويس عليها. ه.
وقال ابن عرفة : زيارة المقابر محدودة، أي : كيوم في شهر، مثلاً، وكان بعضهم يقول : إذا رأيتم الطالب في ابتداء أمره يستكثر من زيارة المقابر، ومن مطالعة رسالة القشيري، فاعلم أنه لا يفلح ؛ لاشتغاله عن طلب العلم بما لا يُجدي شيئاً. ه. أي : لا يفوز بعلم الظاهر ؛ لأنَّ علم الباطن يُفتِّر عن الظاهر، فينبغي لمَن كان فيه أهلية للعلم أن يفرده، حتى يحرز منه ما قسم له، ثم يشتغل بعلم الباطن، بصُحبة أهله، وإلاَّ فمطالعة الكتب بلا شيخ لا توصل إليه، وإنما ينال بمحبة القوم فقط، وفيها مقنع لمَن ضعفت همته.
٢ تقدم الحديث مع تخريجه، انظر الآية ١٧ من سورة عبس..
٣ أخرجه أحمد في المسند ٣/ ٦٣..
قلت : فكل مَن استعمل الأدب في تناول النعمة، بأن شَهِدَها من المنعِم بها، وذكر الله عند أخذها أو أَكْلِها، وشكر عند تمامها، فلا يتوجه إليه سؤال، أو يتوجه إظهاراً لمزيته وشرفه، وعليه يتنزّل قوله صلى الله عليه وسلم :" هذا من النعيم الذي تُسألون عنه "، في حديث أبي الهيثم٢. والله تعالى أعلم.
٢ أخرجه الترمذي في الزهد حديث ٢٣٦٩، والحاكم في المستدرك ٤/١٣١..