هي مكية، نزلت بعد سورة الكوثر.
ومناسبتها لما قبلها : أن في الأولى وصف القيامة وبعض أهوالها، وجزاء الأخيار والأشرار، وأن في هذه ذكر الجحيم، وهي الهاوية التي ذكرت في السورة السابقة، وذكر السؤال عما قدم المرء من الأعمال في الحياة الدنيا، وهذا بعض أحوال الآخرة.
بسم الله الرحمن الرحيم
ﰡ
اللهو : ما يشغل الإنسان، سواء أكان مما يسر أم لا، ثم خص بما يشغل مما فيه سرور ؛ وإذا ألهي المرء بشيء فهو غافل به عما سواه، والتكاثر : التباهي بالكثرة، بأن يقول كل للآخر : أنا أكثر منك مالا، أنا أكثر منك ولدا، أنا أكثر منك رجال ضرب وحرب.
أسباب نزول السورة :
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بريدة قال : نزلت ﴿ ألهاكم التكاثر ﴾ في قبيلتين من الأنصار، وهما بنو حارثة وبنو الحرث، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما : أفيكم مثل فلان وفلان ؟ وقالت الأخرى : مثل ذلك. تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا : انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول : أفيكم مثل فلان ؟ وتشير إلى القبر، ومثل فلان ؟ وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله هذه السورة.
الإيضاح :
﴿ ألهاكم التكاثر ﴾ أي شغلكم التفاخر والتباهي بكثرة الأنصار والأشياع، وصرفكم ذلك عن الجد في العمل، فكنتم في لهو بالقول عن الفعل، وفي غرور وإعجاب بالآباء والأعوان، وصرفكم ذلك عن توجيه قواكم إلى العمل بما فرض عليكم من الأعمال لأنفسكم وأهليكم، وما زال ذلك ديدنكم ودأبكم الذي سرتم عليه.
وفي صحيح مسلم عن مطرف عن أبيه قال :" أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ :﴿ ألهاكم التكاثر ﴾ قال :" يقول ابن آدم : مالي، ومالك، يا بن آدم ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس "، وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب ".
قال الأستاذ الإمام : وقد يكون معنى التكاثر التغالب في الكثرة، أي طلب كل واحد منهما أن يكون أكثر من الآخر مالا أو جاها، والسعي إلى ذلك لمجرد المغالبة، لا يبغي الساعي في سعيه إلا أن يكون ماله أكثر من مال الآخر، أو أن يكون عضده أقوى من عضده، لينال بذلك لذة التعلي والظهور بالقوة كما هو شأن الجمهور الغالب من طلاب الثروة والقوة، ولا ينظر الدائب منهم في عمله إلى تلك الغاية الرفيعة غاية البذل مما يكسب في سبل الخير، أو النهض بالقوة إلى نصر الحق، وحمل المبطلين على معرفته والتوجه إليه، ثم المحافظة بعد ذلك عليه.
وهذا معنى معقول ذهب إليه بعض المفسرين، وهو يتفق كل الاتفاق مع ما يفهم من لفظ ﴿ ألهاكم ﴾ فإن الذي يلهي الناس عن الحق في كل حال، ويصرف وجوههم عنه إلى الباطل، هو طمع كل واحد منهم أن يكون أكثر من الآخر مالا، أو عدد رجال، ليعلو عليه، أو ليستخدمه لسلطانه، بقدر ما يدخل في إمكانه، أما التفاخر بالأقوال، فإنما يلهيهم في بعض الأحوال اه.
*** زار القبور أبو مالك *** فأصبح ألأم زوّارها.
﴿ حتى زرتم المقابر ﴾ أي حتى هلكتم وصرتم من الموتى، فأضعتم أعماركم فيما لا يجدي فائدة، ولا يعود عليكم بفائدة في حياتكم الباقية الخالدة.
قال العلماء : إن زيارة القبور من أعظم الدواء للقلب القاسي ؛ لأنها تذكر بالموت والآخرة، وذلك يحمل على قصر الأمل، والزهد في الدنيا، وترك الرغبة فيها.
ومن ثم قال صلى الله عيه وسلم :" كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا، وتذكركم الآخرة ".
كما لا خلاف في منع زيارتها إذا حدث في ذلك منكرات وأشياء مما نهى عنه الدين، كاختلاط الرجال بالنساء، وحدوث فتن لا تحمد عقباها.
﴿ ثم كلا سوف تعلمون ﴾ وهذا وعيد بعد وعيد في مقام الزجر والتوبيخ، كما يقول السيد لعبده : أقول لك لا تفعل، ثم أقول لك لا تفعل.
﴿ كلا لو تعلمون علم اليقين ﴾ أي ارتدعوا عن تغريركم بأنفسكم، فإنكم لو تعلمون عاقبة أمركم لشغلكم ذلك عن التكاثر، وصرفكم إلى صالح الأعمال، وإن ما تدعونه علما ليس في الحقيقة بعلم، وإنما هو وهم وظن لا يلبث أن يتغير ؛ لأنه لا يطابق الواقع، والجدير بأن يسمى علما هو علم اليقين المطابق للواقع، بناء على العيان والحس، أو الدليل الصحيح الذي يؤيده العقل، أو النقل الصحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وإنما ذكر سبحانه هذا زيادة في زجرهم لتغريرهم بأنفسهم، فقد جرت عادة الغافل أنهم إذ ذكروا بعواقب حالهم أن يقولوا : إنهم يعلمون العواقب، وإنهم في منتهى اليقظة وسداد الفكرة.
ثم ذكر له بعض ما ينهى إليه هذا اللهو، وهو عذاب الآخرة بعد خزي الدنيا فقال :
﴿ لترونّ الجحيم ﴾ أي إن دار العذاب التي أعدت لمن يلهو عن الحق لا ريب فيها، ولترونها بأعينكم، فاجعلوا صورة عذابها حاضرة في أذهانكم، لتنبهكم إلى ما هو خير لكم مما تلهون به.
والمراد برؤية الجحيم ذوق عذابها، وهذا استعمال شائع في الكتاب الكريم.
ثم كرر ذلك للتأكيد فقال :
﴿ ثم لترونها عين اليقين ﴾ أي لترونها رؤية هي اليقين نفسه، إلى أي دين أو إلى أي شخص كانت نسبتكم فلتتقوا الله ربكم، ولتنتهوا عما يقذف بكم فيها، ولتنظروا إلى ما أنتم فيه من نعمة، ولترعوا حق الله فيها، فاستعملوها فيما أمر أن تستعمل فيه، ولا تجترحوا السيئات، وتقترفوا المنكرات، إنكم لتمنون أنفسكم بأنكم ممن يعفو الله عنهم، ويزحزحهم من النار بمجرد نسبتكم إلى الدين الإسلامي، وتلقيبكم بألقابه، مع مخالفتكم أحكام القرآن، وعملكم عمل أعداء الإسلام.
روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال :" أي نعيم نسأل عنه يا رسول الله، وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ظلال المساكن والأشجار، والأخبية التي تقيكم الحر والبرد، والماء البارد في اليوم الحار ".
وروي أن رسول الله صلى الله علي وسلم قال :" من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ".
اللهم وفقنا لشكر نعمتك وأداء حقها، لنجد الجواب حاضرا حين سؤالنا عنها، اللهم آمين.