ﰡ
تضمنت هذه السورة المكية تعداد نعم اللَّه العظمى على قريش أهل مكة، حيث جمع اللَّه كلمتهم، وحقق الألفة والتئام الشمل بينهم: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ ومكّنهم من التنقل وحرية التجارة إلى اليمن شتاء، وإلى الشام صيفا، لتوفير الثروة والغنى: إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ.
وهيّأ لهم في البلد الآمن الحرام نعمة الأمن والاطمئنان والاستقرار دون نزاع من أحد: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ.
فضلها:
روى البيهقي في كتاب الخلافيات عن أم هانئ بنت أبي طالب: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «فضّل اللَّه قريشا بسبع خلال: أني منهم، وأن النبوة فيهم، والحجابة والسقاية فيهم، وأن اللَّه نصرهم على الفيل، وأنهم عبدوا اللَّه عز وجل عشر سنين لا يعبده غيرهم، وأن اللَّه أنزل فيهم سورة من القرآن، ثم تلا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ».
قال ابن كثير: وهو حديث غريب.
التذكير بنعم اللَّه على قريش
[سورة قريش (١٠٦) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ اللام في «إيلاف» إما متعلقة بفعل مقدر، تقديره: اعجبوا لإيلاف قريش، أو متعلقة بقوله: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
أي لأجل هذا، أو متعلقة بقوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ آخر سورة الفيل.
وإِيلافِهِمْ: مجرور على البدل من «إيلاف» الأولى، و «إيلاف» مصدر رباعي، وهو ألف يؤلف إيلافا. وقرئ «إلا فهم» على أنه مصدر فعل ثلاثي، وهو (ألف يألف إلافا).
وقُرَيْشٍ إن أردت به الحي صرفته، وإن أردت به القبيلة لم تصرفه.
ورِحْلَةَ منصوب لأنه معمول المصدر المضاف وهو إيلافهم، مثل وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ [البقرة ٢/ ٢٥١] [الحج ٢٢/ ٤٠].
البلاغة:
الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ بينهما طباق، وكذلك بين جُوعٍ وخَوْفٍ.
َّ هذَا الْبَيْتِ
الإضافة للتكريم والتشريف.
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ وقوله: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
تقديم ما حقه التأخير، والأصل: ليعبدوا ربّ هذا البيت، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فقدم الإيلاف تذكيرا بالنعمة.
جُوعٍ خَوْفٍ التنكير لبيان شدتهما، أي جوع وخوف شديدين.
المفردات اللغوية:
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ يقال: آلف الشيء إيلافا، وألف إلافا وإلفا، أي لزمه وعكف عليه، مع الأنس به وعدم النفور منه، قال الزمخشري: متعلق بقوله: لْيَعْبُدُوا
أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلتين، ودخلت الفاء على لْيَعْبُدُوا
لما في الكلام من معنى الشرط إذ المعنى: أن نعم اللَّه عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لأجله. وقُرَيْشٍ مجموعة القبائل من ولد النضر بن كنانة. منقول من تصغير قرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن، شبهوا بها لأنها تأكل ولا تؤكل، وتعلو ولا تعلى، وصغر الاسم للتعظيم. وقال أبو حيان: سموا بذلك لتجمعهم بعد التفرق، جمعهم قصي بن كلاب في الحرم، والتقريش: التجمع والالتئام.
إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ أي بسبب إلفهم الارتحال إلى اليمن في الشتاء، وإلى الشام في الصيف كل عام، يستعينون بالرحلتين للتجارة على المقام بمكة، لخدمة البيت الذي هو فخرهم
الكعبة. أَطْعَمَهُمْ وسّع لهم في الرزق. مِنْ جُوعٍ مِنْ خَوْفٍ أي من أجل جوع وخوف. وَآمَنَهُمْ جعلهم في أمن وسلامة في الأموال والأنفس. مِنْ خَوْفٍ خوف أصحاب الفيل، أو التخطف في بلدهم ومسايرهم. وكان يصيبهم الجوع لعدم الزرع بمكة، وخافوا جيش الفيل.
سبب النزول: نزول الآية (١) :
أخرج الحاكم وغيره عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «فضّل اللَّه قريشا بسبع خصال»
الحديث المتقدم، وفيه:
نزلت فيهم سورة لم يذكر فيها أحد غيرهم: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ.
التفسير والبيان:
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ أي فلتعبد قريش ربها، شكرا له، لأجل إيلافهم (أي جعلهم يألفون، ويسّر لهم ذلك) رحلتين: رحلة إلى اليمن شتاء لجلب العطور والبهارات الآتية من الهند والخليج، وكونها في الشتاء لأنها بلاد حارّة، ورحلة إلى الشام في الصيف، لجلب الحبوب الزراعية، وكونها في الصيف لأنها بلاد باردة، وكانت قريش في مكة تعيش بالتجارة، ولولا هاتان الرحلتان لم يتمكنوا من المقام بها، ولولا الأمن بجوار البيت، لم يقدروا على التصرف، وكانوا لا يغار عليهم لأن العرب يقولون: قريش أهل بيت اللَّه عز وجل. وكل هذا الاحترام والإجلال لقريش أهل مكة من اللَّه عز وجل الذي هيأه لهم بواسطة البيت الحرام، فكان عليهم الإقرار بهذه النعمة، وإفراد اللَّه بالعبادة والتعظيم.
وصريح محمد بن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن هذه السورة متعلقة
وعلى كل حال فهاتان نعمتان: نعمة صد أصحاب الفيل، ونعمة جوار البيت الحرام والائتلاف فيه، فإن لم يعبدوا اللَّه لسائر نعمه، فليعبدوه لهاتين النعمتين. وقد عرّفهم سبحانه بأنه ربّ هذا البيت، بالرغم من أوثانهم التي يعبدونها حول الكعبة، فميّز نفسه عنها، وبالبيت تشرفوا على سائر العرب، وهم يدركون هذا ويقرّون به. وكانت الإشارة إلى البيت في السورة لإفادة التعظيم.
قال الرازي رحمه اللَّه عند قوله تعالى: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
: اعلم أن الإنعام على قسمين: أحدهما- دفع الضرر، والثاني- جلب النفع، والأول أهم وأقدم، ولذلك قالوا: دفع الضرر عن النفس واجب، أما جلب النفع، فإنه غير واجب، فلهذا السبب بيّن اللَّه تعالى نعمة دفع الضرر في سورة الفيل، ونعمة جلب النفع في هذه السورة، ونظرا لهاتين النعمتين العظيمتين أمرهم ربهم بعبادته والعبودية له وأداء الشكر على ذلك: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
«١».
والعبادة: هي التذلل والخضوع للمعبود على غاية ما يكون، وهي تحقق معنى العبودية.
ثم ذكر اللَّه تعالى نعما أخرى على قريش، وصف بهما رب هذا البيت، فقال:
- الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أي هو ربّ البيت، وهو الذي أطعمهم من جوع ووسّع لهم في الرزق ويسّر لهم سبيله، بسبب هاتين الرحلتين، فخلّصهم من جوع شديد كانوا فيه قبلهما.
ومن عصاه سلبهما منه، كما قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً، يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ، فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ. وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ، فَكَذَّبُوهُ، فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ [النحل ١٦/ ١١٢- ١١٣] «١».
وكانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضها بعضا، فأمنت قريش كما تقدم من ذلك لمكان الحرم، كما آمنهم من خوف الحبشة مع الفيل قال اللَّه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ؟
[العنكبوت ٢٩/ ٦٧].
فقه الحياة أو الأحكام:
أمر اللَّه تعالى في هذه السورة قريشا وهم أولاد النضر بن كنانة بعبادة وتوحيد ربهم الذي أنعم عليهم بهذه النعم الكثيرة ومنها:
١- إهلاك أصحاب الفيل وصدهم عن مكة، كما أهلكوا أيضا لأجل كفرهم، وفي هذا دفع لضرر عظيم مؤكد الحصول لولا عناية اللَّه وحمايته، وتوفير أيضا للأمن والسلامة والاطمئنان بجوار البيت الحرام.
٢- نعمة الرزق وتوفير الحاجة والكفاية بسبب ارتحالهم إلى اليمن شتاء وإلى الشام صيفا لجلب مختلف أنواع التجارات من الأطعمة والثياب، مع أمنهم من إغارة العرب عليهم لأنهم أهل بيت اللَّه وجبرانه.
والكسب.
٤- نعمة وجود البيت الحرام أو الكعبة المشرفة محل التعظيم والتقديس من العرب، وأساس مجدهم وعزهم، فإنهم شرّفوا بالبيت على سائر العرب، فذكّرهم اللَّه بهذه النعمة.
والخلاصة: إن نعم اللَّه عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لهذه النعمة الظاهرة وهي إيلافهم رحلتين.
روى ابن أبي حاتم عن أسماء بنت يزيد بن السكن أم سلمة الأنصارية، قالت: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «ويل لكم قريش: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ».
وروى عنها أيضا: قالت: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ ويحكم يا معشر قريش، اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من جوع، وآمنكم من خوف».
واستدل الإمام مالك بالسورة على أن الزمان قسمان: شتاء وصيف، ولم يجعل لهما ثالثا، فالشتاء نصف السنة، والصيف نصفها.
واستدل العلماء بهذا أيضا على جواز تصرف الرجل في الزمانين بين محلّين، يكون حالهما في كل زمان أنعم من الآخر، كالجلوس في المجلس البحري في الصيف، وفي القبلي في الشتاء، وفي اتخاذ أدوات التبريد صيفا، ووسائل الدفء شتاء.
شتاء.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الماعونمكيّة، وهي سبع آيات.
مكيتها أو مدنيتها:
هذه السورة مكية في قول الجمهور، مدنية في قول ابن عباس وقتادة، وقال هبة اللَّه المفسر الضرير: نزل نصفها بمكة في العاصي بن وائل، ونصفها بالمدينة في عبد اللَّه بن أبي المنافق.
تسميتها:
سميت سورة الماعون، لأن اللَّه تعالى ذم في نهايتها المدنية الذين يمنعون الماعون: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ [٧] كالساهين عن الصلاة، والمنافقين.
والماعون: ما يستعيره الجار من جاره من أدوات الطبخ، كالقدر والملح والماء، وآلات الحراثة والزرع، كالفأس والدلو، ووسائل الخياطة كالإبرة والخيط ونحو ذلك من كل ما يستعان وينتفع به من المنافع السريعة. وتسمى أيضا سورة الدّين للنعي في مطلعها المكي على الذي يكذب بالدّين، أي الجزاء الأخروي.
مناسبتها لما قبلها:
ترتبط السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة:
١- ذم اللَّه في السورة السابقة سورة قريش الجاحدين لنعمة اللَّه
٢- أمر اللَّه في السورة المتقدمة بعبادته وحده وتوحيده: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
وذم في هذه السورة الذين هم عن صلاتهم ساهون، وينهون عن الصلاة.
٣- عدّد اللَّه تعالى في السورة الأولى نعمه على قريش، وهم مع ذلك ينكرون البعث، ويجحدون الجزاء في الآخرة، وأتبعه هنا بتهديدهم وتخويفهم من عذابه لإنكار الدّين، أي الجزاء الأخروي.
ما اشتملت عليه السورة:
تحدثت هذه السورة المكية في مطلعها عن الكافر، وفي نهايتها المدنية عن المنافق.
أما مطلعها فهو في ذمّ الكافر المكذب بيوم الحساب والجزاء: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ووصفته بصفتين: الأولى- انتهاره وزجره وطرده اليتيم، والثانية- عدم الحض أو الحث على إطعام المسكين، فلم يحسن في عبادة ربه، ولم يفعل الخير لغيره.
وأما خاتمتها فهي في ذم المنافق الذي أظهر الإسلام وأخفى الكفر، ووصفته بصفات ثلاث: الأولى- الغفلة عن الصلاة، والثانية- مراءاته الناس بعمله، والثالثة- منعه الماعون الذي يستعان وينتفع به بين الجيران، فهو لا يعمل للَّه، بل يرائي في عمله وصلاته.
وتوعدت الفريقين بالخزي والعذاب والهلاك، ولفتت الأنظار إليهم بأسلوب الاستهجان والاستغراب والتعجيب من صنيعهم.