الإجابة
الحمد لله
أولا :
قال الله تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام :
( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا
بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى
قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ
الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ* وَنَادَيْنَاهُ أَنْ
يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي
الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ )
الصافات/ 101- 112 .
استدل أهل العلم بسياق هذه
القصة في كتاب الله على أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام ، وليس إسحاق ، فإنه لما
قص قصة الذبيح وفرغ منها عطف بذكر إسحاق فقال : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ
نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) ، فدل ذلك على أن الذبيح غيره ، وهو إسماعيل .
وروى الحاكم في " المستدرك " (4039) عن مُحَمَّد بْن كَعْبٍ الْقُرَظِيّ ، قال : "
إِنَّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِهِ مِنِ ابْنَيْهِ إِسْمَاعِيلُ
، وَإِنَّا لَنَجِدُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي قِصَّةِ الْخَبَرِ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ ، وَمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ ذَبْحِ ابْنِهِ : أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ ،
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ حِينَ فَرَغَ مِنْ قِصَّةِ الْمَذْبُوحِ مِنِ
ابْنَيْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ ) ، ثُمَّ يَقُولُ : ( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ
إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) يَقُولُ : بِابْنٍ وَبِابْنِ ابْنٍ ، فَلَمْ يَكُنْ يَأْمُرُ
بِذَبْحِ إِسْحَاقَ وَلَهُ فِيهِ مِنَ اللَّهِ مَوْعُودٌ بِمَا وَعَدَهُ ، وَمَا
الَّذِي أَمَرَ بِذَبْحِهِ إِلَّا إِسْمَاعِيلُ " .
قال ابن كثير رحمه الله :
" ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْحَاقُ ،
وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ ، حَتَّى نُقِلَ عَنْ بَعْضِ
الصَّحَابَةِ أَيْضًا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ، وَمَا أَظُنُّ
ذَلِكَ تُلقى إِلَّا عَنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَأُخِذَ ذَلِكَ
مُسَلَّمًا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ .
وَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ شَاهِدٌ وَمُرْشِدٌ إِلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ ،
فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْبِشَارَةَ بِالْغُلَامِ الْحَلِيمِ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ
الذَّبِيحُ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا
مِنَ الصَّالِحِينَ ) .
وَلَمَّا بَشَّرَتِ الْمَلَائِكَةُ إِبْرَاهِيمَ بِإِسْحَاقَ قَالُوا : ( إِنَّا
نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) . وَقَالَ تَعَالَى: ( فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ
وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ) ، أَيْ : يُولَدُ لَهُ فِي حَيَاتِهِمَا
وَلَدٌ يُسَمَّى يَعْقُوبُ ، فَيَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ عَقِبٌ وَنَسْلٌ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُؤْمَرَ بِذَبْحِهِ
وَهُوَ صَغِيرٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَهُمَا بِأَنَّهُ سَيُعْقَبُ
، وَيَكُونُ لَهُ نَسَلٌ ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ بُعْدَ هَذَا أَنْ يُؤْمَرَ
بِذَبْحِهِ صَغِيرًا ؟ " انتهى من " تفسير ابن كثير " (7/27) .
وينظر : " تفسير القرطبي " (15/113) ، " مجموع الفتاوى " (4/332-333) ، " زاد
المعاد " (1/72) ، " أضواء البيان " (6/317) .
فإذا ثبت هذا ثبت أن إسماعيل
أكبر من إسحاق عليهما السلام ، لأن الله تعالى قال في مطلع قصة الذبح : (
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ) ثم حكى القصة ، ثم قال : ( وَفَدَيْنَاهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) .
فبشره أولا بغلام حليم ، ودل السياق على أنه إسماعيل عليه السلام ، كما سبق ، وحكى
قصته ، ثم بشره ثانيا بإسحاق فقال : ( وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ ) .
قال ابن كثير رحمه الله :
" ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ) وَهَذَا الْغُلَامُ هُوَ إِسْمَاعِيلُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَإِنَّهُ أولُ وَلَدٍ بُشِّرَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ إِسْحَاقَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ
الْكِتَابِ " انتهى من " تفسير ابن كثير " (7/27) .
وينظر : " تفسير القرطبي " (2/138) ، " تفسير الخازن " (1/84) ، " المنتظم " لابن
الجوزي (1/304) .
ثانيا :
لا يجوز الكلام في كتاب الله بغير علم ، ومن قال في كتاب الله بغير علم ، فأصاب :
فقد أخطأ ، قال ابن كثير رحمه الله :
" لِأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ ، وَسَلَكَ غَيْرَ مَا أُمِرَ
بِهِ ، فَلَوْ أَنَّهُ أَصَابَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكَانَ قَدْ
أَخْطَأَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ ، كَمَنْ حَكَمَ بَيْنَ
النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ ، وَإِنْ وَافَقَ حُكْمُهُ الصَّوَابَ
فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، لَكِنْ يَكُونُ أَخَفَّ جُرْمًا مِمَّنْ أَخْطَأَ ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَهَكَذَا سَمَّى اللَّهُ القَذَفة كَاذِبِينَ ، فَقَالَ : (
فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ
الْكَاذِبُونَ ) النُّورِ/ 13 ، فَالْقَاذِفُ كَاذِبٌ ، وَلَوْ كَانَ قَدْ قَذَفَ
مَنْ زَنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ
الْإِخْبَارُ بِهِ ، وَلَوْ كَانَ أَخْبَرَ بِمَا يَعْلَمُ ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّفَ
مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ " انتهى من " تفسير ابن كثير " (1/11) .
ثالثا :
قلم التكليف مرفوع عن الصبي غير البالغ حتى يحتلم ؛ لما روى أبو داود (4403)
والترمذي (1423) عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ
حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ
حَتَّى يَعْقِلَ ) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
وجاء في " الموسوعة الفقهية
" (8/196) :
" ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ فِي الإْنْسَانِ
هُوَ الْبُلُوغُ وَلَيْسَ التَّمْيِيزَ ، وَأَنَّ الصَّبِيَّ الْمُمَيِّزَ لاَ
يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَلاَ يُعَاقَبُ بِتَرْكِ شَيْءٍ
مِنْهَا ، أَوْ بِفِعْل شَيْءٍ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الآْخِرَةِ ؛ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ عَنِ
النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ وَعَنِ
الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ) " انتهى .
فإذا قدر أن القول بأن إسماعيل أكبر من إسحاق عليهما السلام ، ليس أمرا معلوما بنفسه من سياق الكلام العربي المبين ، وأنه ليس من العلوم المشهورة بين الناس ، وإذا قدر – أيضا – أنه لم يكن لك وأنت في هذه السن أن تستنبط مثل ذلك ؛ فلا حرج عليك الآن بعد ما عرفت الصواب ، وعرفت ما يلزمك من السؤال والتعلم ، والنظر في كتب أهل العلم ؛ فإن ذلك كله كان منك قبل سن التكليف ، فلا حرج عليك منه الآن ، إن شاء الله .
والله أعلم .