الفتاوى

الردّ على فرية اقتباس بعض آي القرآن من شعر الجاهلية .
بعض الأشخاص ينسبون بعض آيات القرآن الكريم إلى امرئ القيس ، ويقولون : إن الله سبحانه وتعالى نقل منه ، وإذا أخبرتهم أن أعداء الدين ينسبون الكلام لإمرئ القيس لزعزعة إيماننا بالله ، لا أملك دليلا ، أرجو أن تفيدني

الإجابة


الحمد لله
أولا :
القرآن الكريم كلام الله عز وجل ، أرسل به جبريل عليه السلام ، وأنزله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، ليبلغه للناس ، ليخرجهم به من الظلمات إلى النور .
وقد برّأ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من الشعر وقوله ونظمه والأخذ عن الشعراء ، وبين أن الشعراء يتبعوهم الغاوون ، فقال تعالى : (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) يس/ 69 ، وقال تعالى : (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ) الحاقة/ 41 ، وقال سبحانه: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) الشعراء/ 224
وجعل وصفه بالشعر من قول الكافرين فقال : (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ) الأنبياء/ 5 ، وقال : (وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) الصافات/ 36 ، وقال عز وجل : (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) الطور/ 30 .
ثانيا :
القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بعض القرآن من شعراء الجاهلية ، كامرئ القيس وغيره: قول باطل ومحض افتراء ، والأدلة على ذلك متكاثرة ، نذكر منها :
- أن نظم القرآن مخالف تماما لنظم الشعر ، فليس هو على أقرائه وأوزانه ، وقد نفى أهل الفصاحة أن توجد نسبة بينه وبينه .
فروى مسلم (2473) عن أبي ذر أن أخاه أنيسا لما قال له : " لَقِيتُ رَجُلًا بِمَكَّةَ عَلَى دِينِكَ، يَزْعُمُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ ، قال أبو ذر: فَمَا يَقُولُ النَّاسُ؟ ، قَالَ: يَقُولُونَ: شَاعِرٌ، كَاهِنٌ، سَاحِرٌ، وَكَانَ أُنَيْسٌ أَحَدَ الشُّعَرَاءِ ، قَالَ أُنَيْسٌ: " لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ ، فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِم ْ، وَلَقَدْ وَضَعْتُ قَوْلَهُ عَلَى أَقْرَاءِ الشِّعْرِ، فَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي ، أَنَّهُ شِعْرٌ، وَاللهِ إِنَّهُ لَصَادِقٌ، وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ " ".
وروى الحاكم (3872) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ قال لقريش: " وَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي ، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزٍ وَلَا بِقَصِيدَةٍ مِنِّي ، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ " .
وصححه الحاكم على شرط البخاري ، ووافقه الذهبي .
وروى مسلم (868) عن ضماد بن ثعلبة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ .. ".
- أن مشركي قريش كانوا أفصح الناس ، وأعلم الناس بشعر العرب ، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من شعر امرئ القيس أو غيره من شعراء العرب ، ولو شطرا من بيت ، لشنعوا عليه به ، ولاتهموه بذلك ؟
- أن المعتنين بجمع شعر امرئ القيس وتدوينه ، خاصة ، لم يذكر واحد منهم نوع تشابه بين شيء من آي القرآن ، وشيء من شعره ، ولا شعر غيره .
- أن امرأ القيس وغيره من فطاحل الشعراء قد نحلت عليهم العديد من القصائد فضلا عن الأبيات ، قال الْأَخْفَش : قَالَ خلف الْأَحْمَر: " أَنا وضعت على النَّابِغَة القصيدة الَّتِي مِنْهَا :
خيل صيامٌ وخيلٌ غير صائمةٍ ... تَحت العجاج وَأُخْرَى تعلك اللُّجما
وَقَالَ أَبُو الطّيب اللّغويّ : " كَانَ خلف الْأَحْمَر يصنع الشّعْر وينسبه إِلَى الْعَرَب فَلَا يعرف، ثمَّ نسك وَكَانَ يخْتم الْقُرْآن كلّ يَوْم وَلَيْلَة " .
" الوافي بالوفيات " (13/ 220) .
فلا يبعد أن يكون بعض الكذابين قد اخترع أبياتا من الشعر اقتبسها من القرآن الكريم ثم نسبها إلى امرئ القيس .
- أنه على فرض حصول نوع تشابه بين بعض ما جاء في القرآن وبعض ما جاء في شعر العرب ، فهذا لا يعني أنه مقتبس منه .
فالقرآن الكريم أنزله الله تعالى بلسان عربي مبين ، فهو من الحروف والكلمات نفسها التي تتكلم بها العرب ، ولكن شتان بين أسلوب وأسلوب !
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله :
" قال المعترضون: إن بعض آيات القرآن مقتبسة من القصائد التي كانت منتشرة ومتداولة بين قريش قبل بعثة محمد . فمن ذلك :
دنت الساعة وانشق القمر ... عن غزال صاد قلبي ونفر
أحور قد حرت في أوصافه ... ناعس الطرف بعينيه حور
مر يوم العيد في زينته ... فرماني فتعاطى فعقر
بسهام من لحاظ فاتك ... فتركني كهشيم المحتظر
وإذا ما غاب عني ساعة ... كانت الساعة أدهى وأمر
وأيضًا:
أقبل والعشاق من خلفه ... كأنهم من حدب ينسلون
وجاء يوم العيد في زينته ... لمثل ذا فليعمل العاملون
على أن هذه القصيدة يستحيل أن تكون لعربي، بل يجب أن تكون لتلميذ أو مبتدئ ضعيف في اللغة من أهل الحضر المخنثين عشاق الغِلمان، فهي في ركاكة أسلوبها وعبارتها وضعف عربيّتها، وموضوعها بريئة من شعر العرب ، لا سيما الجاهليين منهم، فكيف يصح أن تكون لحامل لوائهم، وأبلغ بلغائهم؟!
أتصدق أن عربيًّا يقول: انشق القمر عن غزال، وهو لغو من القول؟
وما معنى: دنت الساعة في البيت؟ وأي عيد كان عند الجاهلية يمر فيه الغلمان متزينين؟
وهل يسمح لك ذوقك بأن تصدق أن امرأ القيس يقول: فرماني فتعاطى فعقر، وأي شىء تعاطى بعد الرمي، والتعاطي: التناول ، ومعناه في الآية (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ) القمر/ 29 أنه تناول رمحًا، أو خنجرًا، فعقر الناقة به، والإبل تعقر في نحورها، والعُشَّاق إنما يرمون باللحاظ في قلوبهم، فهل يقول العربي - بعد ما قال: إن محبوبه رماه -: إنه تعاطى بعد ذلك فعقر؟!
أما البيتان الآخران فهما أبعد عن ذوق العرب وعباراتهم، وأذكر أنني رأيت من عزاهما إلى بعض المولّدين، على أنهما اقتباس من القرآن.
ولو فرضنا أن هذه الكلمات العربية استعملت في معنى سخيف في الشعر ، ليس فيه شائبة البلاغة، ثم جاءت في القرآن العربي بمعان أخرى وأسلوب آخر، وكانت آيات في البلاغة كما أنها في الشعر عِبرة في السخافة، فهل يصح لعاقل أن يقول: إن صاحب هذا الكلام البليغ في موضوع الزجر والوعظ مأخوذ من ذلك الشعر الخنث في عشق الغلمان، وأن المعنى واحد لا يختلف؟
فمن كان معتبرًا باستنباط هؤلاء الناس وتهافتهم في الطعن والاعتراض على القرآن ، فليعتبر بهذا، ومن أراد أن يضحك من النقد الفاضح لصاحبه الرافع لشأن خصمه فليضحك. ومن أراد أن يزن تعصب هؤلاء النصارى بهذا الميزان فليزنه " انتهى ملخصا من "مجلة المنار" (7/ 161).
فلا تغتر بقول هؤلاء الجهال ، فإنهم وأمثالهم لا علم لهم بالقرآن ولا بالشعر ولا بالعربية ، ولو كان ما يدعونه حقا لسبقهم إليه أعلم الناس بالشعر والعربية من أعداء النبوة ، فكيف وقد نفوا عنه أي نسبة للشعر ؟
والله أعلم .

Icon