الفتاوى

عصر الجمود في التفسير وضوابط التفسير اللغوي
أشكركم على موقعكم المميز، وجهودكم المباركة. عندي سؤال في التفسير، لقد بحثت عنه كثيرا، وقرأت في التفسير، لكني لم أصل إلى جواب لسؤالي. فلجأت إليكم راجيا أن أجد الجواب عندكم. الأول: أريد نبذة مختصرة عن عصر الجمود في التفسير، ومتى بدأ؟ الثاني: ما هي ضوابط الأخذ باللغة في التفسير؟ وهل هي حجة؟ وما المراد بالأصل اللغوي؟ أثابكم الله، وبارك فيكم.

الإجابة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

 فأما عصر الجمود، فالمقصود به عند من يقول به ما قبل عصرنا بقليل.

يقول الشيخ الذهبي - رحمه الله - في كتابه المشهور: "التفسير والمفسرون" تحت عنوان: التفسير بين ماضيه وحاضره، يقول: لم يترك الأوائل للأواخر كبير جهد في تفسير كتاب الله، والكشف عن معانيه، ومراميه، إذ أنهم نظروا إلى القرآن باعتباره دستورهم الذي جمع لهم بين سعادة الدنيا والآخرة، فتناولوه من أول نزوله بدراستهم التفسيرية التحليلية، دراسة سارت مع الزمن على تدرج ملحوظ، وتلون بألوان مختلفة مرَّت بك كلها. أو مرَّ بك على التحقيق ما وصلنا إليه في دراستنا، وقراءتنا الواسعة المستفيضة. والذي يقرأ كتب التفسير على اختلاف ألوانها، لا يدخله شك في أن كل ما يتعلق بالتفسير من الدراسات المختلفة، قد وفاه هؤلاء المفسِّرون الأقدمون حقه من البحث والتحقيق، فالناحية اللُّغوية، والناحية البلاغية، والناحية الأدبية، والناحية النحوية، والناحية الفقهية، والناحية المذهبية، والناحية الكونية الفلسفية. كل هذه النواحي وغيرها تناولها المفسِّرون الأُوَل بتوسع ظاهر ملموس، لم يترك لمن جاء بعدهم - إلى ما قبل عصرنا بقليل - من عمل جديد، أو أثر مبتكر يقومون به في تفاسيرهم التي ألَّفوها، اللَّهم إلا عملاً ضئيلاً لا يعدو أن يكون جمعاً لأقوال المتقدمين، أو شرحاً لغامضها، أو نقداً وتفنيداً لما يعتوره الضعف منها، أو ترجيحاً لرأي على رأي، مما جعل التفسير يقف وقفة طويلة مليئة بالركود، خالية من التجديد والابتكار.

ولقد ظل الأمر على هذا، وبقي التفسير واقفاً عند هذه المرحلة - مرحلة الركود والجمود - لا يتعداها، ولا يحاول التخلص منها. حتى جاء عصر النهضة العلمية الحديثة، فاتجهت أنظار العلماء الذين لهم عناية بدراسة التفسير إلى أن يتحرروا من قيد هذا الركود، ويتخلصوا من نطاق هذا الجمود، فنظروا في كتاب الله نظرة - وإن كان لها اعتماد كبير على ما دوَّنه الأوائل في التفسير - أثَّرت في الاتجاه التفسيري للقرآن تأثيراً لا يسعنا إنكاره، ذلك هو العمل على التخلص من كل هذه الاستطرادات العلمية، التي حُشِرت في التفسير حشراً، ومُزِجت به على غير ضرورة لازمة، والعمل على تنقية التفسير من القصص الإسرائيلي الذي كاد يذهب بجمال القرآن وجلاله، وتمحيص ما جاء فيه من الأحاديث الضعيفة، أو الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو على أصحابه عليهم رضوان الله تعالى، وإلباس التفسير ثواباً أدبياً اجتماعياً،....". اهـ.

فعلى ما قرره الشيخ - رحمه الله -، يبدأ عصر الجمود قبل عصرنا بقليل، ثم إنه قد بدأت بعض الجهود التجديدية التي تتجاوز الجمود في عصرنا.

وقد تعقبه د.عثمان القميحي - في ملتقى أهل التفسير-؛ فقال: ثم إن الشيخ قد أحدث قولا، وسار عليه من بعده بتقليد عجيب دون تدبر، وربما أذهلتهم جدة الكتاب، وحسن ثناء المعاصرين عليه، وكونه جديدا في بابه عن هذه الملاحظة، وهو أن التفسير كان في مرحلة من مراحله تفسيرا جامدا لا يساير جديد الحياة. هذا الرأي هو الذي جرأ من قاموا فيما بعد بعملية تجديد التفسير، وإطلاق العنان للعقل، فخرج التيار العقلاني. والصحيح أن التفسير في المرحلة التي أشار إليها الدكتور الذهبي على أنها فترة جمود، هي فترة تفسير رصين، فمن قال إن الكشف عن بلاغة القرآن، وحسن نظمه لا يعتبر تفسيرا؟ كما أن الحياة في تلك الفترة التي وصف فيها التفسير بالجمود كان الشرع فيها محكما، والإسلام هو المرجعية العليا للناس، أما الوعظ، والتذكير فهو متروك للوعاظ، والدعاة.انتهى.

ويبدو أن سبب الخلل هو التأثر بكتب تاريخ العلوم الأخرى، كتاريخ التشريع، ونحوه.

يقول د.مساعد الطيار-حفظه الله-في تاريخ القرآن والتفسير:
مما ينبغي أن ننبه عليه، أمران مهمان.

1. أن بعض العلوم قد سبقت الكتابة في تاريخه، أو مناهجه، أو مسائله، وهذا السبق أثر في الكلام على تاريخ التفسير، وذلك حينما جاء المعاصرون ليكتبوا عن تاريخ التفسير استفادوا من الذين كتبوا في تاريخ الحديث والفقه وأصوله ..... الخ. فطبقوا ما يقال في تاريخ علم ما على التفسير، وجعلوا المسألة فيهما متوافقة، مع أن البون بين العلمين شاسع فيها، ......انتهى.

فالواقع أن علم التفسير على مر الزمان، لا يزال فيه الابتكار، والتجديد، أكثر من أي علم آخر، وليس معنى حصول عصر الجمود الفقهي حصول نظيره في التفسير.

  قال الزركشي في المنثور: (فَائِدَةٌ): كَانَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ يَقُولُ: الْعُلُومُ ثَلَاثَةٌ: عِلْمٌ نَضِجَ وَمَا احْتَرَقَ، وَهُوَ عِلْمُ الْأُصُولِ، وَالنَّحْوِ، وَعِلْمٌ لَا نَضِجَ وَلَا احْتَرَقَ وَهُوَ عِلْمُ الْبَيَانِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَعِلْمٌ نَضِجَ وَاحْتَرَقَ، وَهُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ، وَالْحَدِيثِ. انتهى.

وأما التفسير اللغوي؛ فهو حجة، لكن له ضوابط: أهمها عدم استقلالها بالتفسير عن المصادر الأخرى.

يقول د. مساعد الطيار في التفسير اللغوي: لا يصحُّ اعتمادُ اللغةِ دونَ غيرهَا من المصادرِ التفسيريَةِ، لا إشكالَ في كونِ اللُّغةِ العربيَّةِ منْ أهمِّ مصادرِ التَّفسيرِ، وأنَّه لا يصِحُّ لمُفَسِّرٍ أنْ يفسِّرَ القرآنَ وهو جاهلٌ بلغةِ العربِ، وقد سبق بيان شيءٍ من هذا. وسيكونُ الحديثُ هنا عن أنَّ اللُّغةَ لا تَسْتَقِلُّ بِفَهْمِ القرآنِ، وأنَّ الاعتماد عليها دونَ المصادرِ الأخرى يُوقِعُ في الغلطِ؛ لأنَّ التفسيرَ الصحيحَ قد يكونُ من جهةِ هذه المصادرِ، أو تكونُ هذه المصادرُ محدِّدةً للمعنى اللُّغويِّ المحتملِ عند تعدُّدِ وجوهِ التَّفسير.

ومن أهمِّ هذه المصادرِ:

1 - القرآنُ نفسُه؛ لأنَّه قدْ يفسِّرُ بعضُه بعضاً.

 2- ومعرفةُ السُّنَّةِ النَّبويَّةِ، والتَّفسيرِ النَّبويِّ.

3 - ومعرفةُ المصطلحاتِ الشَّرعيَّةِ.

4 - وأقوالُ الصَّحابةِ، والتَّابعينَ وأتباعِهم.

5 - وأسبابُ النُّزولِ، وقَصَصُ الآيِ، وغيرُها مَمَّا قد يحُفُّ بآيةٍ دونَ غيرِها. فإذا استوعبَ المفسِّرُ هذه المعلوماتِ، وغيرَها من العلومِ التي يحتاجُها، أمكنَه أنْ يجتهدَ في التَّفسيرِ، ويرجِّحَ فيه بينَ الأقاويلِ.

وانظر هذا المبحث للشيخ؛ فإنه نفيس. 

وأما الأصلِ اللغويِّ للَّفظِ، فمعناه: أصل معناه في لغة العرب.

يقول د.الطياريظهرُ في كثيرٍ من الألفاظِ حرصُ ابنِ قتيبةَ (ت:276) على بيانِ أصلِ اللَّفظِ في لغةِ العربِ، ولذا تراه يفسِّرُ معنى اللَّفظِ في سياقِه، ثُمَّ يُبَيِّنُ أصلَه الَّذي اشتُقَّ منه، وقد كانتْ هذه الظاهرةُ اللُّغويَّةُ واضحةً عنده، تراها في كتابِه (تأويلِ مشكلِ القرآنِ)، كما تراها في غريبِ القرآنِ. انتهى.
والله أعلم.

Icon