الفتاوى

هل " أرميا " نبي من أنبياء الله ، يجب علينا الإيمان به ؟
هل نؤمن في الإسلام بالنبي أرميا أم إنه من معتقدات اليهود والنصارى ؟ وإن كنا نؤمن به فما هي قصته ؟ وقصة الآيات الأربعة الأولى من سورة الإسراء؟

الإجابة


الحمد لله
أولا :
الإيمان بأنبياء الله ورسله عليهم السلام أصل من أصول الإيمان ، فلا يتم إيمان العبد إلا بالإيمان برسل الله جميعا .
قال تعالى: ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) البقرة/ 285 .
وقال تعالى: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) النساء/ 164 .
فنؤمن بهم جميعا ، إجمالا فيما أجمل ، وتفصيلا فيما فصل .
قال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله :
" الْإِيمَانُ بِرُسُلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُتَلَازِمٌ ، مَنْ كَفَرَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِجَمِيعِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقد قَصَّ الله عَلَيْنَا مِنْ أَنْبَائِهِمْ ، وَنَبَّأَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ : مَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَعِبْرَةٌ وَمَوْعِظَةٌ، إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا ثُمَّ قَالَ: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) فَنُؤْمِنُ بِجَمِيعِهِمْ تَفْصِيلًا فِيمَا فَصَّلَ، وَإِجْمَالًا فِيمَا أَجْمَلَ " .
انتهى مختصرا من " معارج القبول " (2/ 676-678) .

ثانيا :
لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية ذكر اسم (أرميا) ، ولا إثبات أنه من الأنبياء ، وإنما هو شيء ذكره المؤرخون .
ومثل هذا لا يلزمنا تصديقه ، لاحتمال أنه من أكاذيب أهل الكتاب ، ولا يجوز لنا تكذيبه لاحتمال أنه نبي حقًّا ، بل نتوقف في شأنه .
وقد روى البخاري (4485) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ ، وَقُولُوا : (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) البقرة/136 " .
ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (17364) ، غير أنه ذكر في آخر الحديث آية أخرى فقال : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) العنكبوت/46.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" :
"( لَا تُصَدِّقُوا أَهْل الْكِتَاب وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ ) أَيْ : إِذَا كَانَ مَا يُخْبِرُونَكُمْ بِهِ مُحْتَمَلًا ؛ لِئَلَّا يَكُون فِي نَفْس الْأَمْر صِدْقًا فَتُكَذِّبُوهُ ، أَوْ كَذِبًا فَتُصَدِّقُوهُ ، فَتَقَعُوا فِي الْحَرَج .
وَلَمْ يَرِد النَّهْي عَنْ تَكْذِيبهمْ ، فِيمَا وَرَدَ [ أي : شرعنا ] بِخِلَافِهِ ، وَلَا عَنْ تَصْدِيقهمْ فِيمَا وَرَدَ شَرْعنَا بِوَفَائِهِ . نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّه .
وَيُؤْخَذ مِنْ هَذَا الْحَدِيث التَّوَقُّف عَنْ الْخَوْض فِي الْمُشْكِلَات ، وَالْجَزْم فِيهَا بِمَا يَقَع فِي الظَّنّ ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَل مَا جَاءَ عَنْ السَّلَف مِنْ ذَلِكَ" انتهى .
وقال علي القاري في "مرقاة المفاتيح" (1/240) :
"(لَا تُصَدِّقُوا) : أَيْ فِيمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكُمْ صِدْقُهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ (أَهْلَ الْكِتَابِ) ، أَيِ: الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ، لِأَنَّهُمْ حَرَّفُوا كِتَابَهُمْ ، (وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ) : أَيْ فِيمَا حَدَّثُوا مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَكُمْ كَذِبُهُ ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا ، وَإِنْ كَانَ نَادِرًا ؛ لِأَنَّ الْكَذُوبُ قَدْ يَصْدُقُ.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّوَقُّفِ فِيمَا أُشَكِلُ مِنَ الْأُمُورِ وَالْعُلُومِ ، فَلَا يُقْضَى بِجَوَازٍ وَلَا بُطْلَانٍ ، وَعَلَيْهِ السَّلَفُ ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا أَدْرِي فِيمَا يُسْأَلُونَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ . وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: مَنْ أَخْطَأَ لَا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ .
وَ(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) [البقرة: 136] ، أَيْ: صَدَّقْنَا مُعْتَرِفِينَ بِهِ ، أَوْ مُوقِنِينَ بِهِ (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) : مِنَ الْقُرْآنِ (الْآيَةُ) . تَمَامُهَا: (وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِي مُوسَى وَعِيسَى) أَيْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَهَذَا مَحَلُ الشَّاهِدِ ؛ وَالْمَقْصُودُ: رَفْعُ النِّزَاعِ ; يَعْنِي تُؤْمِنُ إِيمَانًا إِجْمَالِيًّا (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) ، أَيْ: فِي الْإِيمَانِ بِهِمْ وَبِكُتُبِهِمْ (وَنَحْنُ لَهُ)، أَيْ: لِلَّهِ ، أَوْ لِمَا أُنْزِلَ (مُسْلِمُونَ)، أَيْ: مُطِيعُونَ أَوْ مُنْقَادُونَ" انتهى .

ثالثا :
ذكر غير واحد من علماء التاريخ والأخبار أن " أرميا " عليه السلام : نبي من أنبياء بني إسرائيل ، وقد قيل إنه عزير ، وقيل : هو الخضر ، والصواب أنه غيرهما .
قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله:
" أرميا بن حلقيا : من سبط لاوي بن يعقوب ؛ من أنبياء بني إسرائيل " .
انتهى من " تاريخ دمشق " (8/ 27) .
وقال ابن كثير رحمه الله :
" هو أَرْمِيَا بْنُ حَلْقِيَا مِنْ سِبْطِ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ الْخَضِرُ. رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ غَرِيبٌ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ " انتهى من "البداية والنهاية" (2/ 360) .
قال علماء التاريخ وأخبار الأمم :
أوحى الله تعالى إلى " أرميا " عليه السلام ، حين ظهرت في بني إسرائيل المعاصي ، وعظمت الأحداث فيهم ، وقتلوا الأنبياء: أن اذهب إليهم وعظهم ، وذكرهم بنعم الله عليهم ، وعرفهم أحداثهم ، وخوفهم بطش ربهم ، في موعظة طويلة بليغة.
قالوا :
" فَلَمَّا بَلَّغَهُمْ أَرْمِيَا رِسَالَةَ رَبِّهِمْ ، وَسَمِعُوا مَا فِيهَا مِنَ الْوَعِيدِ وَالْعَذَابِ، عَصَوْهُ وَكَذَّبُوهُ وَاتَّهَمُوهُ وَقَالُوا: كَذَبْتَ وَعَظَّمْتَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ ، فَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ مُعَطِّلٌ أَرْضَهُ وَمَسَاجِدَهُ مِنْ كِتَابِهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ ، فَمَنْ يَعْبُدُهُ حِينَ لَا يَبْقَى لَهُ فِي الْأَرْضِ عَابِدٌ وَلَا مَسْجِدٌ وَلَا كِتَابٌ ؟ لَقَدْ أَعْظَمْتَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ وَاعْتَرَاكَ الْجُنُونُ.
فَأَخَذُوهُ وَقَيَّدُوهُ وَسَجَنُوهُ .
فَعِنْدَ ذَلِكَ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُ نَصَّرَ ، فَأَقْبَلَ يَسِيرُ بِجُنُودِهِ حَتَّى نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ حَاصَرَهُمْ، فَكَانَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ) .
فَلَمَّا طَالَ بِهِمُ الْحَصْرُ ، نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ ، فَفَتَحُوا الْأَبْوَابَ ، وَتَخَلَّلُوا الْأَزِقَّةَ ، وَحَكَمَ فِيهِمْ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَبَطْشَ الْجَبَّارِينَ ، فَقَتَلَ مِنْهُمُ الثُّلُثَ ، وَسَبَى الثُّلُثَ ، وَتَرَكَ الزَّمْنَى وَالشُّيُوخَ وَالْعَجَائِزَ، ثُمَّ وَطِئَهُمْ بِالْخَيْلِ ، وَهَدَمَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، وَسَاقَ الصِّبْيَانَ ، وَأَوْقَفَ النِّسَاءَ فِي الْأَسْوَاقِ مُحْسَرَاتٍ، وَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ ، وَخَرَّبَ الْحُصُونَ ، وَهَدَمَ الْمَسَاجِدَ ، وَحَرَقَ التَّوْرَاةَ .
فَلَمَّا فَعَلَ مَا فَعَلَ قِيلَ لَهُ : كَانَ لَهُمْ صَاحِبٌ يُحَذِّرُهُمْ مَا أَصَابَهُمْ ، وَيَصِفُكَ وَخَبَرَكَ لَهُمْ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّكَ تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمْ وَتَسْبِي ذَرَارِيَهُمْ ، وَتَهْدِمُ مَسَاجِدَهُمْ ، وَتَحْرِقُ كَنَائِسَهُمْ ؛ فَكَذَّبُوهُ وَاتَّهَمُوهُ، وَضَرَبُوهُ، وَقَيَّدُوهُ، وَحَبَسُوهُ !!
فَأَمَرَ بُخْتَ نَصَّرَ فَأَخْرَجَ أَرْمِيَا مِنَ السِّجْنِ، فَقَالَ لَهُ: أَكُنْتَ تُحَذِّرُ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مَا أَصَابَهُمْ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَإِنِّي عَلِمْتُ ذَلِكَ.
قَالَ: أَرْسَلَنِي اللَّهُ إِلَيْهِمْ فَكَذَّبُونِي.
قَالَ: كَذَّبُوكَ وَضَرَبُوكَ وَسَجَنُوكَ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ كَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ وَكَذَّبُوا رِسَالَةَ رَبِّهِم ْ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَلْحَقَ بِي، فَأُكْرِمُكَ وَأُوَاسِيكَ، وَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُقِيمَ فِي بِلَادِكَ فَقَدْ أَمَّنْتُكَ ؟
قَالَ لَهُ أَرْمِيَا: إِنِّي لَمْ أَزَلْ فِي أَمَانِ اللَّهِ مُنْذُ كُنْتُ ، لَمْ أَخْرُجْ مِنْهُ سَاعَةً قَطُّ ، وَلَوْ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْهُ، لَمْ يَخَافُوكَ وَلَا غَيْرَكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ.
فَلَمَّا سَمِعَ بُخْتَ نَصَّرَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ، تَرَكَهُ، فَأَقَامَ أَرْمِيَا مَكَانَهُ بِأَرْضِ إِيلِيَاءَ " .
انظر : "تاريخ الطبري" (1/538-589) ، "تاريخ دمشق" (8/29-41) ، "البداية والنهاية" (2/ 361-372) .
قال ابن كثير :
" وَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ وَأَشْيَاءُ مَلِيحَةٌ " انتهى .

والله أعلم.

Icon