الوقفات التدبرية

ما الفرق بين يأت ويرتد في سورة يوسف (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا...

ما الفرق بين يأت ويرتد في سورة يوسف (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)) (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96))؟(د.حسام النعيمى) هي وردت في مكانين (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)) ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ يأتي من أتى - يأتي هي في الأصل بمعنى جاء مع فارق بين المجيء والإتيان يتناسب مع الجيم. لاحظ هذه الجيم والألف والهمزة، أتى: الهمزة والتاء والألف الذي يقابل التاء والجيم. الجيم انفجاري، مجهور، قوي. التاء انفجاري، مهموس. فالإتيان أخف من المجيء، المجيء يحتاج إلى قوة، إلى جهد ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي﴾ والقميص قميص يوسف وليس قميصاً توارثه عن الأنبياء من قبله كما يقول بعض الناس فهو قميصه لأن عادة بعض الناس ملبسه يكون له رائحة معينة، رائحة جسمه فممكن أن تعرف من أولادك هذا القميص لفلان أو لفلان من رائحته، ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا) إذا ألقوه على وجهه سيكون بصيراً وسيأتي إلي في هيئة مبصرة سيأتي بشكل هادئ. يقوّي هذا المعنى أنه يراد به المجيء إليه بأنه يأتي وهو مبصر لأنه قال بعد ذلك ﴿وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ﴾ فعطف عليه أتوني وعناه أنه سيأتي إلي مبصراً. ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ﴾ وجاء بكلمة جاء لأنه بذل جهداً في المسير فمجيء هذا البشير كان فيه جهد حتى يأتي إلى والد يوسف مسرعاً لأنه بذل جهداً في السرعة ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ ﴾ كأنه يدخل عليها الاستقبال فوصل وأدخلها على الماضي، ﴿أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾ ارتد بمعنى رجع إلى حاله الأولى. ارتد هو يعقوب أي رجع مبصراً فالفاعل في الحالتين هو سيدنا يعقوب يأتي بصيرا أي يعقوب وفارتد بصيرا وليس نظره فيعقوب ارتد بصيرا أي رجع بصيرا فالردة هي العودة إلى الحال الأول ومنه المرتدون لأنهم رجعوا عن الإسلام إلى الكفر وإلى ما كانوا عليه. فارتد بصيرا أي رجع إلى ما كان عليه من الإبصار. هنا قد يقول قائل ما الداعي؟ كان من الممكن أن يدعو يوسف  الله تعالى أن يعيد البصر إلى أبيه لأن القميص لا يؤدي شيئاً وليس فيه علاج لكن كأن القرآن الكريم يريد أن يعلمنا من تصرفات هؤلاء الأنبياء أن الأمور ينبغي أن تكون بأسبابها، ينبغي أن نقدم أسباباً، أن تكون هنالك مادة معينة كأنها علاج حتى لا يجلس الإنسان وهو مريض لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "تداووا فإن الله سبحانه وتعالى ما جعل داء إلا جعل له دواءً إلا الهرم" حتى لا يتكل الإنسان ويقول أن الله تعالى هو الذي يشفيني. صحيح إبراهيم عليه السلام قال (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴿80﴾ الشعراء) هو يشفيني بسببٍ من الأسباب كما أنه شفى يعقوب بسبب قميص يوسف ابنه فهنالك سبب صحيح أن القميص ليس ذلك العلاج الطبي فهو قماش سقط على وجهه فما علاقته بالإبصار؟. مداخلة من المقدم: وبخصوص هذا الموضوع هنالك بحث مؤخراً بخصوص علاج بعض أمراض العين بالعرق و الباحث الدكتور عبد الباسط من المركز القومي للبحوث قال هذا الكلام وكان مرجعه هذه الآية فأخذ العرق وحلله في مختبرات ومعامل وتوصل إلى مادة تعالج بعض أمراض العين. تعليق الدكتور حسام: هذا كله كلام جيد نحن لا نعترض عليه لكن نقول هذا الدين يبنى على الحقائق اليقينية فهذا دين علم وليس دين تهويمات بحيث أنك إذا ذكرت أمراً تستدل به ينبغي ألا يكون هنالك مجال لنقضه لأنك تستدل بدين الله. نحن نقول هذا دين الله منهج حياة انظروا أي منهج في الدنيا يقيم حياتكم على الخير والسعادة في الدنيا والآخرة اءتونا به. إسلامنا يقيم حياتكم على الخير، ينظمها بنقاء ونظافة وسعادة في الدنيا والآخرة. وهذه أدلة لكن عندما يكون هنالك شيء فيه مجال علمي غير قابل للنقض. فهذا الكلام ممكن أي واحد وهو جالس في المقهى يقول لك يا أخي من مصر إلى سيناء هذا القميص يركض به هذا الرجل فمن أين يبقى عرق فيه؟ من أين تبقى قطرات فيه؟ ألم تجففه الشمس؟ فما دام هناك اعتراض أنا لا أحتج بهذا فديننا أسمى من هذا. في الحقيقة مع إجلالي وتقديري لكل المشتغلين بالإعجاز العلمي أنا أجلهم وأحترمهم لكن ينبغي أن نضع نصب أعيننا هذا أنه لا يكون ما نقدمه عرضة للاعتراض حتى في اللغة نحن عندما نقول هذا الحرف كذا وهذا الحرف كذا ليعترضوا علينا أنا عندما أقول هذا الصوت مجهور الدنيا كلها في كل لغات الدنيا هذا مجهور وليس مهموساً فعندما أقول مهموس يعني هذا مهموس والمجهور أميز من المهموس لأن المجهور يصحبه اهتزاز وترين. فعندما نقدم شيئاً نريد أن نقدم شيئاً لا مجال فيه للنقض وإلا نرجع إلى كونه منهج حياة هذا نظام اجتماعي ونظام أخلاقي ونظام سياسي ونظام اقتصادي ونظام ديني ونظام روحي. هذا إسلامنا هو هكذا وفيه هذه الأمور فنتجنب تجنباً كلياً حقيقة الأمور غير الحاسمة، غير القاطعة لأنه يأتي من يعترض. فهذا حقيقة أمر حاسم أنه ينبغي أن نتخذ أسباباً وإن كانت هذه الأسباب في ظاهرها يسيرة كما قلنا في مرة ماضية عندما يقول لمريم عليها السلام ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴿25﴾ مريم) الرطب لا يأتي لوحده، هزي جذع النخلة وهل تستطيع أن تهز جذع نخلة هل تستطيع أن تهز غصناً وهي ولدت حديثاً؟ هي مجهدة متعبة وقد كان يأتيها رزقها وهي قوية من غير أسباب فالله سبحانه وتعالى يؤتي الرزق من غير سبب لكن الأصل الأسباب تضع يدها على النخلة، تدفع النخلة، تهتز النخلة لا بقوتها وإنما بأمر الله سبحانه وتعالى فتساقط الرطب عليها وتأكل. ويقول الله سبحانه وتعالى (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴿42﴾ ص) وهذه نحن شرحناها حتى لا يظنون أنه يجري. و﴿اركض﴾ هنا بمعنى إرفس أي إرفس الأرض والتراب برجلك حتى تخرج عين الماء. ففرج الله يأتي بأقل سبب يتبعه الإنسان فلا بد من سبب ومعه الدعاء والدعاء أيضاً سبب فالإنسان يدعو ويبذل ويتحرك وقد قلنا (الطير تغدوا خماصاً وتعود بطاناً) فهي ما جلست في عشها بل تخرج وتسعى وتتخذ الأسباب. واللافت للنظر في هذه الآية الكريمة ﴿يَأْتِ بَصِيرًا﴾ ﴿ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾ فلدينا أتى وجاء وارتد كلها ربما تدور في فلك دلالي واحد بمعنى الحضور أو الإتيان مع أن الفاعل واحد في حالتين وهو مع سيدنا يعقوب عليه السلام وجاء البشير فلماذا ثبت الفاعل وتغير الفعل؟ ﴿يَأْتِ بَصِيرًا﴾ لأنه فيه معنى المجيء الذي لم يشأ أن يجعل فيه قوة أو جهداً أو تعباً كأنه يريد منهم ألا يتعبوه أي يأتي بصيراً ﴿وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ﴾ أي تأتونا بهيئة الذي لا يجهد نفسه ويتعب. لأن قلنا أتى وجاء معناهما متقارب المجيء فيه جهد كالجهد المبذول في إخراج الجيم أكثر من الجهد المبذول في إخراج التاء لأن كلاهما شديد: الجيم والتاء والجيم فيه إضافة اهتزاز الوترين الصوتيين فمن هنا جاءت كلمة أتى ويأتي وقال ﴿وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ﴾ ما قال جيئوني بأهلكم لأنه لا يريد أن يثقل عليهم. فالمجيء فيه ثقل ولم يرتد بصيرا لأن ارتد فيه رجوع وهو يريد أن يأتي إليه. لو قال يرتد بصيراً أي في مكانه أين معنى المجيء؟ هو يريد معنى الإتيان إليه قال ألقوه على وجه أبي يأتي إلي وهو مبصر واءتوني ببقية أهلكم. هذا الإيتاء ولابد أن يقول ارتد بمعنى رجع إلى حاله الأول ولا تصلح كلمة أخرى ويقصد يعقوب وليس البصر فرجع يعقوب عليه السلام بصيراً، رجع ذا بصرٍ، كان غير ذي بصر، كان أعمى فرجع مبصراً فارتد يعقوب بصيراً ولا تستقيم غير كلمة ارتد هنا. فلو قال صار بصيراً كأنه لم يكن بصيراً من خِلقته ثم صار بصيراً. حتى كلمة أصبح تعطي نفس معنى صار فيه نوع من التحول بينما ارتد أي رجع إلى حاله..والذي يقول أن القرآن فيه تكرار وأن فيه أحرف متشابهة يصح أن يوضع بعضها مكان بعض هذا يدل على قلة معرفة بالعربية وقلة معرفة بتاريخ القرآن وتاريخ الإسلام فلو كان هذا الذي يقولونه صحيحاً كما قلت مرة لطار المشركون به وقالوا هذا الكلام ليس دقيقاً، ليس صحيحاً، هذا ممكن أن نعترض عليه لكن سكوت فصحاء العرب أمام القرآن ليس إسكاتاً من الله سبحانه وتعالى وإنما بسبب القرآن نفسه فالقرآن هو الذي ألجمهم وليس كُن فيكون لأن هذا الدين لم يتعامل معه رب العزة بكلمة كن فيكون حتى مع أشرف خلقه جعله يتحرك ويذهب ويصلي في الليل وتتفطر قدماه ويذهب على المكان الفلاني ويسقط في الحفرة في المعركة وتدخل في وجنته الشريفة الحديدة وتكسر رباعيته ولا يوجد كلمة كُن هنا. ففي هذا الدين التطبيق العملي فهذا الدين ليس دين كسالى ونائمين ينتظرون النصر من الله كأنه يشغل الله سبحانه وتعالى جندياً عنده- وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- اللهم أغرق سفنهم احرق ديارهم، يتّم أولادهم...الخ ما هذا الكلام؟ أنت ينبغي أن تجتهد وأن تبني بلادك وعند ذلك تقف في وجه أعداء الإسلام فاعمل أنت، ابني كيانك بناءً سليماً علمياً صالحاً وعند ذلك تقف في وجه كل هؤلاء الطغاة وكل هذا الطغيان القادم من وراء البحار. وهذا التأمل في كتاب الله عز ومراجعة العلماء ومراجعة المصادر الموثقة في هذا كما قلنا مراجعة أهل العلم الموثقين يؤدي بنا إلى هذا الاطمئنان والاستقرار إلى ما في كلام الله سبحانه وتعالى،وفي آيات متتالية يأتي وجاء واتوني فارتد وكلها تدور في فلك دلالي واحد ولكن كل واحدة في مكانها لا يصلح غيرها فكل كلمة عاشقة مكانها في القرآن.

ﵟ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ﵞ سورة يوسف - 93


Icon