الوقفات التدبرية

*ما سبب التقديم والتأخير في آية سورة يس (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى...

*ما سبب التقديم والتأخير في آية سورة يس (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)) وسورة القصص (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ( 20))؟ (د.حسام النعيمى) (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ( 20) القصص) هذه الآية لو تأملناها: لما يأتي النظام على صورته الطبيعية المفروض أن لا يرد السؤال فالنظام طبيعي هو أن يأتي الفعل ، الفاعل ثم المتممات للفعل مثل المفعول به أو المفعول معه أو الحال أو التمييز أو غيره. هذا نظام الجملة العربية فعل وفاعل ومتممات فلما يأتي نظام (جاء رجل) هذا على النظام طبيعي المفروض لا يُسأل عنه. مع ذلك لأنه ورد في مكان آخر (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) يس) يرد السؤال لِمَ لم يحدث تغيير هنا كما حدث في الآية الأخرى؟ نحن سنشرح لماذا حدث التغيير في الآية الثانية؟ السؤال لم لم يحدث فيه تغيير كما هو حدث في الآية الثانية يعني أن يقول في غير القرآن: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك) هذا الرجل مقصود من الآية أن إنساناً حذّر موسى وكان لإهتمامه أنه جاء يسعى من أقصى المدينة فللإهتمام بالرجل الذي عرّض نفسه للمخاطرة لما يأتي ويحذّر موسى أن هناك من يأتمر بك ويُعرّض نفسه للخطورة ولذلك كان الإهتمام به فقدّم ﴿وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى﴾ لأنه جاء محذّراً ثم ذكر المكان الذي جاء منه والهيئة التي جاء بها على أن الأصل أن يأتي بعد الفعل مباشرة لكن مع ذلك حتى هذا الأصل حوفظ عليه لأن هناك إهتمام بهذا الإنسان الذي عرّض نفسه للخطر، يعني ليس هناك إهتمام بأقصى المدينة. هذه واحدة ولما ننتقل إلى الآية الأخرى نجد أنه (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) يس) هذا ما جاء ليحذّر وإنما جاء ليدعم المرسلين. جاء ليقويّ التبليغ في الدعوة. لما يأتي ليقويّ التبليغ في الدعوة يعني هو كان مؤمناً إذن هذه شهادة للمرسلين بأن دعوتهم بلغت أقصى المدينة. فإذن المكان هنا أهمّ من الرجل حتى يفهم القارئ أن هؤلاء المرسلين بلّغوا الدعوة ونشروها بحيث وصلت إلى أقصى المدينة فقال ﴿وجاء من أقصى المدينة﴾ ثم بعد ذلك قال ﴿رجل﴾ هو غير معتني بالرجل وإنما معتني بالمكان أنه من هذا المكان البعيد جاء مؤمناً فإذن هم إشتغلوا في نشر الدعوة بحيث بلغوا في دعوتهم إلى أقصى المدينة. وهذا هو الفارق لذلك هنا المكان أهم حتى يُظهر جهدهم وما بذلوه من نشر للدعوة. يقال الجمل بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات فهل رجل في الآية الثانية بعد نكرة هي صفة؟: كلمة ﴿رجل﴾ نكرة في الحالين وإن كانت قُيّدت بالآية الأولى ﴿وجاء من أقصى المدينة رجل﴾ وهذا لا يكسبها تعريفاً وليس تخصيصاً. وهذا يكسبها تخصيصاً تبقى صفة بعد النكرات لا تكون حالاً والجار والمجرور يُكسبها تخصيصاً ولا يكسبها تعريفاً. وعلى أية حال فإن قوله ﴿وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى﴾ يفيد أنه جاء من أبعد مكان في المدينة. وقوله ﴿وجاء رجل من أقصى المدينة﴾ يحتمل ذلك ويحتمل أنه من أهل الأماكن البعيدة وإن لم يكن مجيئه من هناك. وفي تقديم ﴿من أقصى المدينة﴾ في سورة يس فائدة أخرى حتى لو كان مجيئهما كليهما من أقصى المدينة فإن قوله ﴿وجاء من أقصى المدينة﴾ يدل على أن الاهتمام أكبر لأكثر من سبب: 1. ذلك أن مجيء الرجل من أقصى المدينة إنما كان لغرض تبليغ الدعوة في حين أن مجيء الرجل إلى موسى كان لغرض تحذيره سراً والأمر الأول أهم. 2. ثم إن مجيء الرجل من أقصى المدينة إنما كان إشهار إيمانه أمام الملأ ونصح قومه في حين أن مجيء الرجل إلى موسى ليسرّ إليه كلمة في أذنه فمجيء رجل يس إنما كان للإعلان والإشهار ومجيء رجل موسى إنما كان للإسرار وفرق بين الأمرين. 3. إن مجيء رجل يس فيه مجازفة ومخاطرة بحياته وليس في مجيء رجل موسى شيء من ذلك وإنما هو إسرار لشخص بأمر ما ليحذر. 4. إن المجتمع في القرية كله ضد على الرسل وعقيدتهم مكذب لهم متطير بهم فإعلان الرجل أنه مؤمن بما جاء به الرسل مصدق لهم فيه ما فيه من التحدي لهم بخلاف مجتمع سيدنا موسى عليه السلام فإنه ليس فيه فكر معارض أو مؤيد وليست هناك دعوة أصلاً. 5. إن نصر رسل الله وأوليائه ودعاته أولى من كل شيء فإن تعزيزهم تعزيز لدعوة الله وأما موسى عليه السلام فإنه كان رجلاً من المجتمع ليس صاحب دعوة آنذاك ولم يكلفه الله بعد حمل الرسالة. فتقديم ﴿من أقصى المدينة﴾ دل على أن الموقف أهم وأخطر ومع ذلك أفادنا أن تحذير شخص من ظالم أمر مهم ينبغي أن يسعى إليه ولو من مكان بعيد. فإن كلا الموقفين مهم غير أن أحدهما أهم من الآخر فقدّم ما قدم ليدل على الاهتمام. جاء في التفسير الكبير في قوله تعالى ﴿وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى﴾ :"وفي فائدته وتعلقه بما قبله وجهان: أحدهما أنه لبيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث آمن بهم الرجل الساعي وعلى هذا فقوله ﴿من أقصى المدينة﴾ فيه بلاغة باهرة وذلك لما جاء من ﴿أقصى المدينة رجل﴾ وهو قد آمن دل على أن إنذراهم وإظهارهم بلغ إلى أقصى المدينة... وفي التفسير مسائل: المسألة الأولى قوله ﴿وجاء من أقصى المدينة رجل﴾ في تنكير الرجل مع أنه كان معروفاً معلوماً عند الله فائدتان: 1. الأولى أن يكون تعظيماً لشأنه أي رجل كامل في الرجولية. 2. الثانية أن لا يكون مفيداً لظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به فلا يقال إنهم تواطؤا. المسألة الثانية قوله ﴿يسعى﴾ تبصرة للمؤمنين وهداية لهم ليكونوا في النصح باذلين جهدهم وقد ذكرنا فائدة قوله ﴿من أقصى المدينة﴾ وهي تبليغهم الرسالة بحيث انتهى إلى من في أقصى المدينة". وجاء في روح المعاني " ﴿وجاء من أقصى المدينة﴾ أي من أبعد مواضعها ﴿رجلٌ﴾ أي رجل عند الله تعالى فتنوينه للتعظيم وجوز أن يكون التنكير لإفادة أن المرسلين لا يعرفونه ليتواطؤا معه.... ﴿يسعى﴾ أي يعدو ويسرع في مشيه حرصاً على نصح قومه وقيا أنه سمع أن قومه عزموا على قتل الرسل فقصد وجه الله تعالى بالذبّ عنهم.... وجاء ﴿من أقصى المدينة﴾ هنا مقدّماً على ﴿رجل﴾ عكس ما جاء في القصص وجعله أبو حيان من التفنن في البلاغة. وقال الخفاجي: قدّم الجار والمجرور على الفاعل الذي حقه التقديم بياناً لفضله إذ هداه الله تعالى مع بعده عنهم وأن بُعده لم يمنعه عن ذلك. ولذا عبر بالمدينة هنا بعد التعبير بالقرية إشارة إلى السعة وأن الله تعالى يهدي من يشاء سواء قرُب أو بعُد. وقيل قدّم للاهتمام حيث تضمن الإشارة إلى أن إنذارهم قد بغ أقصى المدينة فيشعر أنهم أتوا بالبلاغ المبين. وقيل أن لو تأخر توهم تعلقه بيسعى فلم يفد أنه من أهل المدينة مسكنه في طرفها وهو المقصود". (قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)) الآية الكريمة (قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ (21)) نلاحظ أول مرة قال لهم ﴿يا قوم﴾ ليعطف قلوبهم وذكر لهم ثلاثة أمور تدعوهم إلى اتباع هؤلاء الدعاة: 1. كونهم مرسلين من الله وهذا أهم ما يستوجب اتباعهم فكونهم مرسلين من ربهم يدعو إلى اتباعهم لأنهم لا يدعون لأنفسهم ولا إلى معتقدات شخصية ولا إلى آراء خاصة ولا إلى أفكار بشرية وإنما يدعونهم إلى ما أراده ربهم وخالقهم. 2. وأنهم لا يسألون أجراً على التبليغ ولا يبتغون مصلحة خاصة كما هو شأن كثير من أصحاب الدعوات والأرضية مما يدل على أنهم مخلصون في دعوتهم. 3. أنهم مهتدون وهذا يقتضي الاتباع وهو بغية كل متبع مخلص. جاء في الكشّاف " ﴿من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون﴾ كلمة جامعة في الترغيب يفهم أي لا تخسرون معهم شيئاً من دنياكم وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة". وقد كرر الاتباع بقوله ﴿اتبعوا المرسلين(20) اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون(21)﴾ لأكثر من غرض فالتكرار يفيد التوكيد ويفيد أمراً آخر وهو أن المرسلين ينبغي أن يتبعوا أصلاً فإذا ثبت أن شخصاً ما مرسل من ربه كان ذلك داعياً إلى أن يتبع قطعاً وهذه دلالة قوله ﴿اتبعوا المرسلين﴾. أما اتّباع غير المرسلين فيكون لمن فيه صفتان: 1. أن يكون مهتدياً. 2. أن لا يسأل أجراً ولا يطلب منفعة ذاتية. وهذ توجيه لعموم المكلفين ولو قال (اتبعوا المرسلين من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون) لكان ذلك خاصاً باتباع الرسل ولا يشير إلى اتباع غيرهم من المصلحين والداعين إلى دعوتهم. فتكرار ﴿اتبعوا﴾ أفاد الإتباع للرسل في حالة وجودهم والاتباع الثاني لمن يحمل هاتين الصفتين.إذن هو مخلص لا يبتغي منفعة خاصة وهو مهتدي. ذكر الإخلاص وصحة ما يدعو إليه. * كأنه يقول إذا ظننتم أن هؤلاء مرسلين اتبعوهم وإذا لم يكونوا مرسلين؟ فعندكم أمرين. يعني ينطبق على الرسل وغير الرسل ذكر ميزاناً فيه نقطتين. إتباع الرسل ﴿اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ وغير الرسل الإخلاص وصحة الرسالة. لو حذف ﴿اتَّبِعُوا﴾ لكانت فقط للمرسلين يعني اتبعوا المرسلين من لا يسالكم أجراً وهم مهتدون فتصبح كلها للمرسلين لم يذكر غيرهم. الآن هو ذكر أمرين: أولاً هذه قد تفيد التوكيد ثم كونه مرسل كافي، غير المرسل ذكر نقطتين. * يعني على غرار (وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ (28) غافر) في الحالين مقبول غذا كان كاذباً هو يتحمل وإن كان صادقاً تنجوا. لهذا علمنا تكرار ﴿اتَّبِعُوا﴾ لكن لماذا قال ﴿من﴾ تحديداً ﴿اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ ولم يقل الذي؟ ﴿الذي﴾ للشخص الواحد مفرد. ﴿من﴾ للواحد أو الاثنين أو الجماعة فهي عامة فلو قال ﴿الذي﴾ ستعني واحداً. هم الآن جماعة ﴿ثلاثة﴾ فقال ﴿من﴾ لأنها تشملها كلها سواء كان الداعية واحد أو أكثر. * ﴿من﴾ أقوى لأنهم ثلاثة؟ هم ثلاثة وليس واحداً و﴿من﴾ عامة إذا كان واحداً أو أكثر.جاء في روح المعاني "تكرير للتأكيد وللتوسل به إلى وصفهم بما يتضمن نفي المانع عن اتباعهم بعد الإشارة إلى تحقق المقتضي". واختار ﴿من﴾ على ﴿الذين﴾ لكونها أعمّ فإنها تشمل كل داع إلى الله واحداً كان أو أكثر.

ﵟ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ﵞ سورة يس - 20


Icon