ما السر في استعمال ﴿فيهن﴾ في قوله تعالى (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) الرحمن) مع أن باقي الآيات ورد فيها ﴿فيهما﴾ مثل (فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68))؟ (د.فاضل السامرائى)
في سورة الرحمن ﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ يعني نوع من الإكرام لمن خاف مقام ربه، الذي يخاف مقام ربه يطبّق ما يريده ربه، ﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ هذا إكرام ليس جنة واحدة وإنما يوهَب جنتين.
﴿من﴾ علماؤنا يقولون لفظها لفظ مفرد، ﴿من خاف﴾ أي الذي خاف لكن هي ليست بلفظ ﴿الذي﴾ وإنما تحتمل الذي واللذان واللتان والذين واللاتي، هي عامّة لفظها لفظ مفرد، حتى أن البعض قال ما الدليل على أن لفظها لفظ مفرد؟ علماؤنا يقولون لفظها لفظ مفرد الدليل أن تأبّط شرّاً – هو شاعر جاهلي معروف - جمعها على (منون) يقول:
أتوا ناري فقلت منون أنتم؟ فقالوا الجِنّ قلت عِمّوا ظلاماً
أوقد ناراً في الليل،صار أضيافه من الجنّ. قول علماؤنا لما يقولون لفظه لفظ مفرد عندهم إسناد. أنت تستطيع أن تقول كما قال القرآن ﴿من خاف﴾ ولك أن تقول (من خافوا) لكن بيان القرآن وأسلوبه في استعماله لما يستعمل ﴿من﴾ لما يستعمله للجمع يراعي لفظه مرة ومعناه مرة، يقدّم مراعاة اللفظ على مراعاة المعنى (ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر) يقول مفرد، ﴿وما هم بمؤمنين﴾ ما قال ﴿وما هو﴾ هذا السياق موجود في القرآن في مواطن كثيرة. لما يكون ﴿من﴾ يراد به الجمع يستعمل أولاً المفرد ثم بعد ذلك يأتي إلى الجمع. عندنا آيات أخرى: ﴿ومن يطع الله والرسول﴾ ومن يطع مفرد ﴿فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم﴾ جمع، هذا السياق يراعي اللفظ ويراعي المعنى، يقدم مراعاة اللفظ على مراعاة المعنى. كان العرب يلاحظون هذا ويعجبون ويقفون إجلالاً لكلام الله سبحانه وتعالى عندما يسمعونه كهذا الذي سمع قوله تعالى (وأنذرتكم صاعقة) وضع يده على رأسه قال ستسقط على رأسي، كانوا يتحسسون هذا.
﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ الذي خاف مقام ربه من آدم إلى قيام الساعة هو جماعة وليس واجداً، الخائفون كُثُر، فإذن جنتان وجنتان وجنتان إذن تكون جنّات، لذلك نجد القرآن في موضع آخر صحيح هو قال (ذواتا أفنان، فيهما عينان تجريان) ثم قال ﴿متكئين﴾ لما جاء يتحدث عن الخائفين قال متكئين يعني هؤلاء الخائفون قال متكئين لم يقل متكيء، راعى المعنى هنا. فلما قال متكئين، المتكئون لا يكون لهم حوراء واحدة وإنما حور عين، لا يكون لهم قاصرة طرف وإنما قاصرات. فلما جاء لذكر النساء في يوم القيامة كان لا بد أن يجمع، لا تكون واحدة فقال ﴿فيهن قاصرات الطرف﴾ كأنه يمهّد لقاصرات الطرف ما قال ﴿فيهما﴾ في الجنتين لأنه قال ﴿متكئين﴾ إذن صارت جنات، قال متكئين إنتقل إلى صورة الجمع، إلى صورة جنات وجنات تقتضي ﴿فيهن﴾ حتى يلائم أيضاً قاصرات الطرف.
الموضع الثاني هو هو أيضاً (فيهن خيرات حسنات)، إستمر يتكلم ﴿ومن دونهما جنتان﴾ لأن الجنة مراتب لذا الرسول يقول: إسألوا الله الفردوس الأعلى لأنه يدعو يدعو فيسأل الله سبحانه وتعالى أعلى شيء لأنه يدعو ويسأل كريماً لكن الناس مراتب.
(من دونهما جنتان) رجع للجنتين التي هي لكل واحد خاف مقام ربه فصارت جنات، ﴿فيهما فاكهة ونخل ورمان﴾ لما جاء إلى ذكر الخيرات الحسان ﴿فيهن خيرات حسان﴾، الخيرات جمع خيرة التي أصلها خيّرة وخُفّفت، هي جمع الزوجات. ثم قال ﴿حور مقصورات في الخيام﴾ لهذا السبب جاءت ﴿فيهن﴾ تمهيد لذكر مجموع ما في هذه الجنات، والله أعلم.
ﵟ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﵞ سورة الرحمن - 70