الوقفات التدبرية

(مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ...

(مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)) *هل هناك من رابط بين هذه الآية وما سبقها؟ قبلها تكلم عن الحياة الدنيا تكون حطاماً، هذه مصيبة وهنا وجهنا إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة في ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ فهذه المصيبة التي وقعت في الأرض لما قال ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ كلها أصبحت حطاماً وقعت في النفس وفي الأرض إذن هذه مصائب وقعت في الأرض والأنفس وذكر الأموال وذكر الأنفس. فذكر أن كل مصيبة تقع في الأرض وفي الأنفس وتحل إلا هي مدونة مكتوبة قبل أن تقع وهي يسيرة على الله سبحانه وتعالى. كل ما أصابكم وما يصيبكم في المستقبل، ما أصاب من مصيبة في الأرض من كوارث وما إلى ذلك وفي الأنفس إلا مدونة مكتوبة كتبها ربنا عنده في كتاب (الكتاب هنا اللوح المحفوظ الذي كتب فيه ما كان وما سيكون إلى يوم الدين). كلها مدونة في كتاب قبل أن تقع لذا ينبغي أن نوجه أنفسنا إلى أمر آخر وهو المسابقة إلى الآخرة حيث لا مصيبة لا تقع فيها مصائب ولا يقع فيها شيء إذن هي مرتبطة بالآيتين التي قبلها. فقال لنا ما حلّت وما وقعت من مصيبة في الأرض ولا في الأنفس إلا وهي مدونة فلِمَ التأسف؟، قبل أن نخلقها، قبل أن نوجدها، من قبل أن نبرأها. *قال ﴿ما أصاب﴾ هل أصاب بمعنى حل أو وقع؟ القرآن لا يستعمل مع المصيبة إلا أصاب ولم يستعمل فعلاً آخر لم يقل وقعت مصيبة أو حلّت مصيبة إنما يستعمل أصاب ومتصرفاتها ما تصرّف منها. أصاب أصلها من الإصابة والإصابة أصلها ضد الخطأ (أصاب فلان الهدف أي لم يخطئه، أصاب فلان في كلامه أي لم يخطئ) رب العالمين بين لنا أن المصائب هي مقدرة وقد أصابت موقعها المقدر لها لم تخطئه. لا تتصور أن هذه المصائب وقعت عشوائياً وإنما اصابت موقعها المقدر لها لم تخطئه فلم الأسى؟ إن يستعمل أصاب ولم تقع عشوائياً ولا تؤدي حلّت أو وقعت هذا المعنى. لكن أصابت أي أصابت موقعها المقدّر لها لم تخطئه. *﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ﴾ قدم المصيبة في الأرض على النفس؟ الأرض هي مقدمة من حيث الخِلقة، الأرض تسبق لأن الأرض مهيأة لمن عليها من الأشخاص والمصائب في الأرض قبل أن تقع في الأنفس، المصائب في الأرض هي تقع فيها كوارث من فيضانات وغيرها قبل أن يوجد البشر إذن المصيبة في الأرض أسبق من مصيبة الأنفس ولذلك قدمها ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ﴾ قدم الأرض لأنها وقعت قبل الأنفس. ما فائدة ﴿من﴾؟ هذه تسمى في اللغة مِنْ الاستغراقية التي تستغرق كل ما دخلت عليه. (وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ اللّهُ (62) آل عمران) استغرقت جميع الآلهة. (أن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ (19) المائدة) تستغرق كل ما دخلت عليه. لما تقول ما جاءني رجل فيها احتمالين أنه ما جاءك رجل وإنما رجلين أو أكثر وما جاءني رجل أي واحد من هذا الجنس أما ما جاءني من رجل تستغرق الجنس بكامله لم يأتك لا واحد ولا أكثر من هذا الجنس. ما أصاب من مصيبة أي أي مصيبة كبيرة أو صغيرة لم يشذ عنها مصيبة واحدة فيما يحدث في كل الدنيا لا يمكن أن تقع مصيبة إلا وهي مدونة في كتاب وخارج الكتاب لا تقع وهذا على سعة علم الله وإحاطته بالأشياء صغيرة أو كبيرة حيثما وقعت هي مدونة مكتوبة في كتاب من قبل أن تقع. *في الحديد قال ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ﴾ وفي الشورى (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (30))؟ ﴿أصاب﴾ مطلق لم يقيدها بمصاب معين، ﴿ما أصاب﴾ لا قيّدها في مكان ولا في شخص، بينما ﴿ما أصابكم﴾ هناك مخاطبين لا تتعلق بالأرض فهي للمخاطبين تحديداً لأنه قال ﴿فبما كسبت أيديكم﴾ لما قال فبما كسبت أيديكم خصصها فذكر المصائب التي تصيبنا بما كسبت أيدينا, لما قال ما أصابكم عندما خصص قال بما كسبتم أيديكم لما خصص خصص وفي الثانية أطلق فقال أصاب لم يقل بما كسبت أيديكم ﴿ما أصاب﴾ وعندنا في آية أخرى في التغابن (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ (11)). ﴿ما أصابكم﴾ خاصة و﴿ما أصاب﴾ عامة مطلقة. *في الحديد ﴿مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾ لماذا لم يقل من قبل أن تقع؟ في الآية يدل على العلم والقدرة لما قال ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا﴾ دل عل علمه وقدرته . نبرأها يعني نوجدها وهي أحد معاني الخلق. الخلق له معاني وقد ينسب إلى الإنسان تقول خلقت هذا الشيء كما قال عيسى (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ (49) آل عمران) يأتي بمعنى التصوير. بمعنى من المعاني الخلق يعني الإيجاد. قال نبرأها بدل نوجدها. الله تعالى يستعمل إسم البارئ بمعنى الخالق. لم يقل من قبل أن تقع لأن هذه الآية تدل على العلم والقدرة: االعلم أنه في كتاب و ﴿من قبل أن نبرأها﴾ أي هو الذي أوجدها إذن دل على علمه وقدرته ولو قال من قبل أن تقع دل على علمه فقط ولا يدل على القدرة. نبرأها هو الذي أوجدها فيها علم وقدرة، علِم بها فدوّنها وأوجدها فيها قدرة. لو قال من قبل أن تقع لا تدل على القدرة وإنما على العلم فقط. لما قال من قبل أن نبرأها دل على العلم والقدرة وتدل على التوحيد إذا كان يبرأها كلها فأين الآلهة الأخرى التي يزعمون؟ يدل على القضاء والقدر لأنها مدونة في كتاب ويدل على التوحيد ونفي الشرك. ضمير النصب في نبرأها على من يعود؟ المصيبة أو الأنفس أو الأرض؟ يعود على جميعها قبل خلق الأنفس والأرض والمصيبة وهذا علم عظيم، عندما قال من قبل أن نبرأها أطلقها. لا يمكن أن يقول نبرأهم لأنها للذكور للعقلاء ولا نبرأهنّ تعني ثلاثة، لكن نبرأها أكثر لأن ضمير غير العاقل لو عندنا ضمير غير عاقل في الجمع الجمع القليل نأتي بضمير الجمع وللقليل نأتي بالإفراد. مثال (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ (36) التوبة) قال منها لم يقل منهن ﴿فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾ لما قال أربعة قال فيهن بضمير الجمع ولما قال اثنا عشر قال منها وجاء بالإفراد. إذا كان الضمير لغير العاقل إذا كان كثيراً نأتي بضمير الإفراد وإذا كان قليلاً أي أقل من عشرة نأتي بضمير الجمع. العرب لما يؤرّخون يقولون: لثلاث خلون، لأربع خلون، لإحدى عشرة ليلة خلت، لما يتجاوز العشرة يقولون خلت. ضمير الفاعل للتعظيم (النون في نبرأها جمع التعظيم) جاء بعدها بالمفرد ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ ما قال علينا وهذا تعبير في القرآن حيث يذكر ضمير التعظيم في جميع القرآن يأتي بعده أو يسبقه ما يدل على الإفراد. ليس في القرآن موطن فيه ضمير التعظيم إلا أن يكون قبله أو بعده ما يدل على الإفراد. (إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر) هذا في جميع القرآن حيث ذكر ضمير التعظيم لا بد أن يسبقه أو أن يأتي بعده ما يدل على الإفراد. *﴿ إن ذلك على الله يسير ﴾ما فائدة التقديم؟ هذه للحصر أي على الله يسير حصراً لو قال يسير على الله قد يكون يسيراً على غيره لما تقول هذا هيّن عليّ هذا ليس حصراً هين عليّ قد يكون هين على غيرك. (قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ (9) مريم) أي حصراً وفائدة التقديم الحصر لا يكون يسيراً على غيره.

ﵟ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﵞ سورة الحديد - 22


Icon