الوقفات التدبرية

(وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ...

(وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15)) فكرة عامة عن الآية: جاهداك أي بذلا جهدهما على أن تشرك بالله، إذا بذلا جهدهما وحاولا على أن تشرك بالله فلا تطعهما. ثم قال ﴿بي﴾ مقام توحيد هذا لأن هذا موطن التوحيد نفي الشك والقرآن لا يستعمل في مثل هذا إلا مقام الإفراد. في مقام التوحيد ونفي الشرك لا يستعمل إلا ضمير المفرد (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا (15) طه) في القرآن كله في كل مواطن التوحيد يذكر ضمير الإفراد، قال ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي﴾ ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ أبطل الشك من جميع نواحيه وأقسامه. المعلومات على قسمين إما أن يعلم الإنسان أن هذا لا يصلح أن يكون شريكاً لله إما أن يعلم أو لا يعلم. كل ما في الوجود الإنسان أحد أمرين إما أن يعلم أن هذا يكون شريكاً أو لا يكون فإن علِم أنه لا يصح أن يكون شريكاً يكون علِم بقي النفي عما لا يعلم.. كل ما في الوجود بالنسبة للإنسان أحد أمرين إما يعلم أو لا يعلم، إما أن يعلم أن هذا لا يصلح أن يكون شريكاً لله أو لا يعلم بذلك. الذي لا يعلم يعلمه وبقي الذي لا يعلم فقال ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ تعود على الذي يريد أن يشركه بالله وهو لا يعلم. إذا كنت تعلم أن هذا ليس لا يصلح فأنت تعلم بقي الذي لا يعلم ﴿فلا تطعهما﴾ الذي حصل أنه نهاه عن كل الشرك وكل أقسامه ما علِم وما لم يعلم. إذا نفى ما ليس له به علم فالمنطق أن يكون نفى الذي له به علم لأنه يعرفه. ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ ﴿ما﴾ هنا مفعول به للفعل تشرك، الذي تعرفه إشراك، الذي تعرفه أنه لا يصلح فأنت تعرفه. إن جاهداك على الشرك فلا تطعهما. ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ الدنيا يحملها المفسرون على أمرين إما في الحياة الدنيا لأن هذه المصاحبة ستنتهي ستكون في الدنيا ثم ستنتهس ويفترقان في الآخرة وإنما المصاحبة في أمور الدنيا لا في أمور الدين يعني أمور الدين لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. في أمور الدين لا تطعهما بينما في أمور الدنيا قد تطيعهما، صاحبهما في أمور الدنيا لا في أمور الدين. إما في الحياة الدنيا أي ما داما على قيد الحياة فصاحبهما معروفا إلى أن يقضي الله بينهما وتفترقا المقصود تصاحبهما في أمور الدنيا ولا يعارض ذلك الدين أما إذا الأمر تعلق بالدين فلا تطعهما. إذن هي صاحبهما في الدنيا معروفاً لها حالتين: في الدنيا كلها أو في أمور الدنيا. *حينما يتحدث الله تعالى عن العلاقة بين الأفراد والمعاشرات يقول (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (2) الطلاق) وهنا قال ﴿معروفاً﴾ لم يقل بمعروف فلماذا؟ هذا التعبير تدل على عظيم منزلة الأبوين عند الله يعني تصاحبهما في الدنيا مصاحبة هي المعروف بعينه. صحاباً معروفاً يعني ليست مصاحبة للمعروف. لو قال صاحبهما بمعروف يعني أن تكون المصاحبة مع المعروف والباء للإلصاق أو قد تكون للمعية أي مصاحبة للمعروف وليست هي المعروف كله وإنما مصاحبة للمعروف لما قال تعالى (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (231) البقرة) مصاحبة الزوج للزوجة تختلف فأنت تستطيع أن تنهر زوجتك أو ترفع صوتك عليها أو تعضلها أو تضربها أما مع الأبوين فلا يمكن أن يحصل شيء من هذا. قد تصاحب المرأة بمعروف لكن مع هذه المصاحبة بالمعروف قد تنهرها وتزجرها وتؤدبها لكن لا يمكن أن يكون هذا مع الوالدين. إذن هذه معروف وليست بمعروف، صاحبهما مصاحبة هي المعروف بعينه. ﴿معروفاً﴾ تُعرَب مفعولاً مطلق، هو في الأصل وصف للمصدر صِحاباً معروفاً، صاحب فاعل مصدر فاعل فعال ومفاعلة مثل قاتل القتال والمقاتلة، جاهد الجهاد والمجاهدة. *في سورة العنكبوت قال تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8)) وفي الأحقاف (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا (15)) ولكن هنا قال ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ فما اللمسة البيانية في اختيار حُسناً وإحساناً؟ ذكر ربنا سبحانه وتعالى في سورة لقمان قال ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ لم يرد مثل هذا التعبير في آيتي العنكبوت أو في الأحقاف لم يقل وصاحبهما في الدنيا معروفا وإنما ورد التعبير بأسلوب وتعبير آخر. في العنكبوت قال ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ وفي الأحقاف قال ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾ في لقمان قال ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ ما قال لا حُسناً ولا إحساناً ولكن ذكر المصاحبة بدل الحسن والإحسان ذكر المصاحبة ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ لم يذكر المصاحبة في آيتي العنكبوت والأحقاف وكل تعبير هو في مكانه أنسب ومناسب للسياق. هو قوله ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ لا شك هو أنسب مع السياق لأن السياق في المصاحبات مصاحبة الأبن لابنه وكيف وجهه وكيف ينبغي أن يصاحب الإبن لأبويه وعلّمه مصاحبة الآخرين في المجتمع أن لا يصعِّر خدّه وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هذه كلها في المصاحبات، فالسياق في لقمان في آداب المصاحبات الأب مع ابنه ينبغي أن يوجهه ويعلمه وأن لا يتركه والإبن مع والديه كيف ينبغي أن يتعامل ثم الشخص مع عموم المجتمع كيف ينبغي أن يتعامل في المجتمع مع الآخرين لم يرد مثل هذا السياق لا في الأحقاف ولا في العنكبوت. إذن ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ هو أنسب مع سياق المصاحبة. لماذا قال حسنا وإحساناً؟ في لقمان ذكر أن افتراض أبويه يجاهدانه على أن يشرك بالله ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ إذن إفتراض أن أبويه يجاهدانه على الشرك بالله فطلب المصاحبة بالمعروف. في العنكبوت أيضاً قال ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فلا تطعهما﴾ فلماذا قال حسناً في آية العنكبوت؟ مثلما قال في لقمان ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ في العنكبوت قال أيضاً ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فلا تطعهما﴾ فما الفرق؟ المجاهدة في لقمان أشد على الشرك ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي﴾ وفي العنكبوت قال ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي﴾ وجاهداك على أن تشرك بي أشد حملاً على المجاهدة وأقوى من جاهداك لتشرك (اللام للتعليل) و﴿على﴾ فيها معنى الحمل والشدة. مثال: لما تقول أنفقتُ عليه لينجح وأنفقتُ عليه على أن ينجح (هذا شرط الإنفاق) وأما الأولى (لينجح هذه لام التعليل)، زوّجتك ابنتي لتعينني (هذه لام التعليل) وزوّجتك ابنتي على أن تعينني (هذا شرط) فيه إشتراط، (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ (27) القصص) هذا شرط وفيها إشتراط. فإذن ﴿على أن تشرك بي﴾ المجاهدة فيها أشد من ﴿لتشرك بي﴾. مع الشدة الأقل قال ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ ومع الشدة الأكثر قال ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ وفي العنكبوت لم يقل صاحبهما في الدنيا معروفا، إذن قال ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ هذا مع الجهاد الشديد ولم يقل حسناً. السياق في المصاحبات قال ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ وفي العنكبوت ليس السياق في المصاحبات فقط الوصية والمجاهدة أقل ولهذا حدد الوصية بـ﴿حسنا﴾. في لقمان قال ﴿بوالديه﴾ هذا معناه العموم والإطلاق. فلما كان في العنكبوت الجهاد أقل قال حُسناً لكن لم يذكر المصاحبة بالمعروف وفي الجهاد الأشد قال ﴿بوالديه﴾ لم يذكر حُسناً وإنما ذكر المصاحبة بالمعروف في سورة لقمان. في لقمان ما ذكر حُسناً ولا إحساناً ولكن ذكر المصاحبة بالمعروف مع الجهاج بشدة ومع الجهاد الأقل في العنكبوت قال ﴿حُسناً﴾ ولم يذكر المصاحبة لأن السياق في العنكبوت في الحسن من الأعمال. في العنكبوت قال ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ وفي الأحقاف قال ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾ حتى التعبير ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ كيف قال وصاحبهما في الدنيا معروفا ولم يقل بمعروف لأنه أراد أن المصاحبة هي المعروف بعينه وهنا لما قال ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ يعني الوصية هي الحُسن بعينه لم يقل بالحُسن ولم يقل وصيناه بشيء حسن وإنما جاء بالمصدر ﴿حُسناً﴾. الإتيان بالمصدر له دلالة بيانية أن الوصف أو الإتيان أو الإخبار أو الحال بالمصدر يدل على المبالغة لذلك ليست عندهم قياس (وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ (18) يوسف) كذب مصدر أي هو الكذب بعينه. ومحتمل في غير القرآن أن يقال بدم كاذب أو بالكذب كما يقال هذا رجل زور وهذا رجل صوم وهذا رجل عدل، تقول هذا رجل صائم أي قد يكون صام يوماً أما لو قلنا هذا رجل صوم لا تقال إلا إذا كان الصوم عادة طاغية ظاهرة عنده وهذا يستعمل للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والجمع لفظاً واحداً لأنه مصدر يقال رجال صوم ونساء صوم ورجل صوم وامرأة صوم. المصدر (ووصفوا بمصدرٍ كثيراً فالتزموا الإفراد والتذكيرا). هذا من المبالغة يعني المعاملة في الوصية هي الحُسن بعينه ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ ليس فيها حُسن وليست حسنة جيدة وإنما هي الحُسن بعينه. يبقى السؤال لماذا قال حسناً وإحساناً وكلاهما مصدر؟ يجوز للكلمة أن يكون لها أكثر من مصدر (حُسناً مصدر حَسُن من الفعل الثلاثي وإحساناً مصدر أحسن، أفعل إفعال هذا قياس مثل أكرم إكرام، أعظم إعظام، أجبر إجبار، أكره إكراه) هذان مصدران مختلفان لفعلين مختلفين. حسُن فعل لازم حسُن الشيء في نفسه حًسناً، إحسان أن يتعدى خيره للآخرين أحسنت إليه إحساناً (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ (77) القصص) فرق بين أحسنت إليه وبين عاملته حُسناً، عاملته حُسناً أي المعاملة أو اللقاء كان حسناً لكن لم تفعل له شيئاً أما الإحسان فيتعدى خيره للآخرين أحسنت إليه أي قدمت له معروفاً قدمت له خيراً. ووصينا الإنسان بوالديه حسناً أي عاملهما حسناً أما إحساناً أن تقدم لهما الخير إذن إحساناً أقوى من حُسناً. يبقى لماذا استعمل كل واحدة في مكانها؟ آية العنكبوت ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ هذه الآية (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) الأحقاف) نلاحظ في هذه الآية حملته كُرهاً ووضعته كُرهاً ولم يقل هذا في العنكبوت ولم يقل هذا في لقمان ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾ وإنما ذكر الحمل دون الوضع أما هنا فذكر الحمل والوضع وكلاهما كُره فأيهما أشدّ على المرأة؟ قد تحمل شيئاً كرهاً وتضعه بيُسر إذن ذكر في الأحقاف أمرين الحمل والوضع وكلاهما كره ومشقة. هذا فيه مشقة في الحمل والوضع ولم يذكر الحمل أصلاً في العنكبوت وفي لقمان ذكر الحمل ولم يذكر الوضع وقال ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾ لم يذكر آلام الوضع ولا مشقة الوضع لكن ذكر جزءاً من آلام الحمل. في لقمان ذكر الحمل وحده وقال ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾، في الأحقاف ذكر الحمل والوضع وكلاهما كُره وفي العنكبوت لم يذكر الحمل والوضع، إذن أيهما يستحق الإحسان؟ الأحقاف. هذا أمر والأمر الآخر أنه في الأحقاف الوالدان مؤمنان ﴿قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾ هذان الأبوان مؤمنان وبعدها قال (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) الأحقاف) في الأحقاف الوالدن مؤمنان وفي العنكبوت ولقمان الوالدان كافران في لقمان ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ وفي العنكبوت ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ بينما في الأحقاف لم يذكر هذا وإنما ذكر آلآم الحمل وآلآم الوضع وأن الأبوين مؤمنان فمن الذين يستحق الإحسان؟ المؤمن يستحق الإحسان. هل يصح في البلاغة أن نضع الإحسان في آية العنكبوت والحُسن في آية الأحقاف؟ لا يمكن. هذا إضافة إلى أن ذكر الحُسن في سياق آية العنكبوت أنسب من الإحسان. في العنكبوت قال (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) ووصينا الإنسان ) حتى يتناسب مع الجزاء، هذا في سياق الحسن من الأعمال. في الأحقاف قال (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)) هذا في سياق الحسن من الأعمال. فإذن العنكبوت والأحقاف السياق في الحُسن من الأعمال فذكر حسنا وإحساناً وفي لقمان السياق في المصاحبة بين الناس والمعاشرة بين الناس فذكر المصاحبة بالمعروف. إذن سواء كان من ناحية السياق أو من ناحية واقع الوالدين كل تعبير هو أنسب في مكانه: الحُسن في العنكبوت والإحسان في الأحقاف والمصاحبة بالمعروف في لقمان. *هل يجوز للرجل العادي الذي ليس له علم بالعربية والبيان والبلاغة كيف له أن يفهم بهذا الشكل؟ هو ليس مكلفاً بأن يفهم بهذا الشكل لكن المهم أن يقرأ لكن إذا كان الشخص يتعالم فينبغي أن يُبين له ما يجهله. هناك أناس يتكلمون بما لا يعلمون فيُبين لهم حتى تقوم الحجة عليه. (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ (15) لقمان) لا سبيلهما، صاحبهما في أمور الدنيا وليس في أمور الآخرة ولا تتبع سبيلهما وإنما اتبع سبيل المنيبين إلى الله في الطاعة والعبادة والمعاملة في إقامة شرع الله فيما أنت مكلف به واتّبع سبيل المنيبين إلى الله لا سبيلهما لأنهما مشركان لكن ينبغي المصاحبة بالمعروف. برغم أنه ذكر المصاحبة بالمعروف والوصية بالوالدين إلا أنه يقول واتبع سبيل من أناب إليّ لأن الله سبحانه وتعالى خلق الجن والإنس للعبادة والطاعة ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فكيف تتبع سبيلهما وهما قد عصيا؟ تصاحبهما في الدنيا معروفاً في أمور الدنيا وهم قالوا المصاحبة إما في أمور الدنيا أو في الدنيا ثم تنقطع المصاحبة وكل واحد يذهب في حال سبيله. (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ (15) لقمان) إليّ حصراً لا ترجعون إلى جهة أخرى ولا إلى ذات أخرى وفي هذا إبطال للشرك لا يرجعون إلا إليه حصراً فلماذا الشرك وما يفعل الشركاء؟ إليّ مرجعكم مثل إلي المصير تقديم الجار والمجرور والمبتدأ معرفة وهنا ابتدأ بالخبر ويجوز التقديم. (فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) لقمان) أي أخبركم ولم يقل فأجزيكم مثلاً لأن ربنا قد ينبئ الإنسان بما عمل ثم يغفر له في الآخرة، يستر عليه قد ينبئ الإنسان بما عمل ثم يجزيه خيراً منه. لم يذكر الجزاء هنا وإنما ذكر الإخبار، قد يكون أحصاها وقد يكون نسيها (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ (6) المجادلة) ربنا ينبئه بما كان يعمل من خير أو شر المؤمن قد يفعل معصية ولمم فينبئه بما عمل ثم يغفر له والحسنة يجزيه بخير منها (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا (89) النمل) أو بعشر أمثالها (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا (160) الأنعام) (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) الزلزلة) إذن هو ينبئ ما ذكر الجزاء ما قال يجزى به وإنما قال يره. هذا حكم عام أن يرى الرجل عمله ليس هذا الجزاء فإن كان مؤمناً يجزيه الله تعالى خيراً مما رأى أو يغفر له يدنيه فيغفر له (سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها عليك اليوم) ويسترها عليه في الآخرة كما سترها عليه في الدنيا. في نفس السورة في مكان آخر لم يكتف بالتنبيه وإنما ذكر الجزاء مع الكافرين (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)) لم يكتف بالتنبيء لأن هؤلاء كفروا، ينبئهم ثم يجزيهم بما عملوا. هناك لم يذكر كفر وإنما كان حكماً عاماً.

ﵟ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﵞ سورة لقمان - 15


Icon