.(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20))
*ما تعلُّق هذه الآية وتواصلها بما قبلها خاصة بعد انتهاء وصايا لقمان لابنه فكيف نربط بين هذه الآية وما سبقها من آيات؟
انتهت وصية لقمان بالآية التي ذكرناها (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)) وبدأ الآن كلاماً آخر وهو كلام رب العالمين وخطابه للخلق (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)) هو قبل وصية لقمان قال (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)) ذكر خلق السموات وإلقاء الرواسي في الأرض وما بثّ فيها من كل دابة قبل وصية لقمان وهنا ذكر النِعم التي أنعمها في السموات والتسخير وأسباب النِعم، هناك الخلق وهنا المرحلة الأخرى وهي التسخير بعد الخلق هناك خلق السموات وهنا تسخيرها لأن التسخير يكون بعد الخلق، بدأ هناك بالخلق ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ والآن إسباغ النعم والتسخير في النِعم فالخلق أولاً ثم التسخير والنِعم التي أنعمها رب العالمين علينا فهو الخالق وهو المسخر وهو المُفيض بالنِعم، هذه من حيث الارتباط. ومن حيث المضمون الناس هم يعلمون أن الله خالق السموات والأرض (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (38) الزمر) كان المتوقع أن معرفة هذا الأمر تدعو الناس إلى عبادته سبحانه لكن مع ذلك ذكر مع هذا ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾ قال قسم من الناس يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين. هذه الآية ليست فقط لها ارتباط بالآية التي سبقت وصية لقمان فهي كأنها مكملة لها خلق السموات وما إلى ذلك ثم بعدها التسخير وحتى يبدو أن لها ارتباطاً بأول السورة (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3)) وصف الكتاب بأنه حكيم وذكر بأنه هدى ورحمة للمحسنين وذكر أن هؤلاء يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، هناك ذكر الكتاب وذكر أنه حكيم، وهنا ذكر أنهم يجادلون بغير علم ولو اطلعوا على الكتاب لكان عندهم علم لأن حكيم من الحِكمة توفيق العلم بالعمل، يعلم ثم يعمل بمقتضى العلم، الحكمة أن يضع الشيء في محله قولاً وفعلاً. إذن بغير علم يقابل وصف الكتاب بأنه حكيم لأنهم لو اطلعوا وقرأوا الكتاب لكانوا يتكلمون بعلم، ثم قال ﴿ولا هدى﴾ وقد وصف الكتب بأنه هدى قال ﴿هدى ورحمة﴾. ﴿ولا كتاب منير﴾ وهو أثبت أنه كتاب حكيم ﴿تلك آيات الكتاب الحكيم﴾ إذن هنا قال ﴿ورحمة للمحسنين﴾ وهنا لم يحسنوا في الجدال يجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير إذن لم يحسنوا في الجدال وأما الرحمة المذكورة فرحمته بخلقه وما أفاض عليهم من النِعم في السورة. فهي إذا كما هي مرتبطة كأنما هي تأتي بعد الوصية هي مرتبطة بفاتحة السورة (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3)).
اللمسات البيانية في الآية:
الآية الكريمة ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾ قال ألم تروا ولم يقل ألم تر أي الخطاب لعموم العقلاء وليس المفرد، خاطب جمع العقلاء. ﴿ألم تروا﴾ أي ألم تبصروا، ألم تر إلى يصير علماً يعني ألم تعلم (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ (45) الفرقان) ربنا لا يُرى فيعني ألم تعلم. ورأى قد يكون قلبياً أو بصرياً، فإذن ﴿ألم تروا﴾ الخطاب لعموم العقلاء ثم قال ﴿سخر لكم﴾ ذكر نعمته بالتسخير لعموم الخلق ثم قال (ما في السموات وما في الأرض) شمل عموم ما فيهما ما في السموات وما في الأرض وهذا أعمّ تسخير (ما في السموات وما في الأرض) (ما بمعنى الذي) لم يقل كما قال في مواطن أخرى (وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) إبراهيم) تحديداً، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) إبراهيم) (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ (12) النحل) (اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ (12) الجاثية) هذه جزيئات وهنا قال (ما في السموات وما في الأرض)، إذن ألم تروا جمع، سخر لكم جمع ثم ما في السموات وما في الأرض أعم تسخير ثم قال ﴿وأسبغ﴾ معناها أفاض في العطاء وليس العطاء فقط، كلها في الزيادة والمبالغة في الشيء. ثم قال ﴿نِعمه﴾ جمع الكثرة لم يقل أنعمه لأن أنعم جمع قلة وجمع القِلّة معدود بين الثلاثة والعشرة ونِعم جمع كثرة غير معدود لما أثنى الله تعالى على إبراهيم قال (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ (121) النحل) لم يقل لنعمه، لا يستطيع لأنها لا تُحصى (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا (34) إبراهيم) نعمة هنا جنس وحتى النعمة الواحدة فيها نِعم. النِعم عامة والنعمة قد تكون للجنس مثل الإنسان فتشمل جميع النِعم وحتى لو كانت واحدة فهي لا تُحصى. ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ نعمة هنا إسم جنس يعني النعمة على العموم مثل كلمة رجل أحياناً يراد به فرد وأحياناً يراد به جنس. هنا قال ربنا تعالى نِعمه ولم يقل أنعمه. ثم قال ﴿ظاهرة وباطنة﴾ دلالة على شمول النِعم لكافة أنواعها ظاهرة وباطنة. ولو قال وأسبغ عليكم نعمه قد يظن ظان أنها ظاهرة وغير باطنة مثلاً؟ ذكر ظاهرة وباطنة للشمول لأن من النعم ما هو باطن مثل العقل والقلب وما أودعه الله تعالى فينا من القوة والأشياء باطنة لأن الإنسان قد لا يحس إلا بالنعم الظاهرة فقال ﴿ظاهرة وباطنة﴾ وهذه كلها متناسبة مع الشمول الذي يذكره. ثم قال ﴿بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير﴾ فأفاض في ذكر مركّب الجهل، عناصر الجدل. هو أوسع وأفاض في عموم المسخر لهم عموم الخلق (ألم تروا، سخر لكم، أسبغ عليكم) وأوسع وأفاض فيما سخره لهم (ما في السموات وما في الأرض) وأوسع وأفاض في الفعل (أسبغ) وأوسع وأفاض في النعم ﴿نعمه﴾ وأوسع وأفاض في الشمول ﴿ظاهرة وباطنة﴾ وأوسع وأفاض في ذكر عناصر الجهل (بغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين) هذه تشمل عناصر الجهل المركّب الظاهر والباطن. العلم هذا باطني أنت ترى إنساناً لكن لا تحدد علمه من الرؤية وقد تظهر بعض الآثار إذا تكلم الشخص، هذا أمر باطني. والهدى قسمين قد يكون ظاهراً وقد يكون باطناً، ظاهراً في الكتب ورب العالمين سمى الكتب هدى التوراة والنجيل والقرآن هدى ورحمة، والهدى الظاهر أدلاء الطريق (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) طه) من يهديه وذكر النجوم (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) النحل) هذا هدى ظاهر والهدى الباطن هو توفيق الله وما يقذفه من نور في قلب الإنسان (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) الكهف) (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى (76) مريم) (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا (13) السجدة) وقوله ﴿ولا كتاب منير﴾ هذا كتاب ظاهر مقروء. إذن نفى عناصر الجهل وتدرج في ذكر العناصر من الباطن إلى المشترك إلى الظاهر، الباطن هو العلم والمشترك هو الهدى والباطن هو الكتاب. ثم وصف الكتاب بأنه منير لم يقل فقط ولا كتاب لأن هؤلاء قد يرجعون إلى كتب غير منيرة (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ (6) لقمان) وقد يرجعون إلى الكتب المحرفة، إذن كلمة منير أفادت أنها حددت كتاب الله. علاقة منير بالوصف الذي قبله من الجهل المركّب الذين هم فيه أنهم في ظلمات ويخرجهم من الظلمات إلى النور. واللطيفة أن هذه المجادلة في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير هي أنكر المجادلات وهي مثل أنكار صوت الحمير فمن اللطيفة أن تكون بعدها، فهي مناسبة لما قبلها. جعل كلاهما من المستنكرات المستنكر في العقول أن يرفع الإنسان صوته والمستنكر في الجدال والنقاش أنه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
القرآن كله وحدة واحدة مترابطة دائماً ولا يمكن تفسير القرآن بما هو خارج عنه وهناك كلام أن القرآن يفسر بعضه بعضاً ومن الأسس الذي يتصدى لعلم التفسير أن يرجع إلى ما في القرآن من نحو التعبيرات والمعاني حتى يتبين له كثير من الأمور. وهناك رسالة دكتوراة بعنوان وحدة السورة في القرآن الكريم تناولت هذه الجوانب.
*قال تعالى في سورة النحل (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)) وفي سورة لقمان (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً (20)) فما الفرق بين أنعُم ونِعَم؟ نِعمه هل هي نِعَم واحدة؟
أنعم جمع قِلّة على وزن أفعُل، نِعم جمع كثرة. ونعم الله تعالى لا تحصى ولا يمكن أن تُشكر ولا نستطيع شكرها فالله تعالى مدح ابراهيم على أنه شكر الأنعم أي القليل من النِعم فمدحه على ذلك لأنه لا يمكن لأحد أن يشكر نِعَم الله تعالى التي لا تُحصى فأثنى على ابراهيم لأنه كان شاكراً لأنعم الله تعالى. والله تعالى لم يسبغ علينا أنعماً ولكنه أسبغ نعماً ظاهرة وباطنة لا تُحصى.
والاسباغ هو الإفاضة في ذكر النِِعم. قال تعالى في سورة الإنسان (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)) شاكراً اسم فاعل والكفور مبالغ في الكفر. وتوجد نِعم مستديمة منها ما نعلم وما لا نعلم والله تعالى أفاض علينا بالنعم الكثيرة ولو شكرنا نشكر باللسان وهو بحد ذاته نعمة.
ﵟ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ۗ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ﵞ سورة لقمان - 20