الوقفات التدبرية

(إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا...

(إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً {5}‏ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً {6}) ورد في القرآن جمع الأبرار والبررة ونلاحظ أن القرآن الكريم يستعمل الأبرار للناس المكلّفين ويستعمل البررة للملائكة ولم يستعملها للناس أبداً (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ {15} كِرَامٍ بَرَرَةٍ {16}عبس) لماذا؟ الأبرار هي من الصيغ المستخدمة لجموع القَلّة والناس قليل منهم الأبرار (قلة نسبية) مصداقاً لقوله تعالى (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ {103}يوسف) فاستعمل القَلّة النسبية بينما الملائكة كلهم أبرار فاستعمل معهم الجمع الذي يدل على الكثرة ﴿بررة﴾. ثم قال تعالى ﴿يشربون من كأس كان مزاجها كافورا﴾ والكأس هي الزجاجة التي فيها شراب فإذا كانت فارغة تُسمّى زجاجة. وفي الآية ذكر تعالى صنفين من هؤلاء ﴿الأبرار﴾ الذين يشربون من كأس ممزوجة بالكافور وقسم آخر هم ﴿عباد الله﴾ في قوله تعالى ﴿عيناً يشرب بها عباد الله﴾ والمقصود بعباد الله هنا المقرّبون حسب بعض المفسرين وكلمة عبد الله هي أرفع وسام يصف الله تعالى به عبده فلمّا وصف تعالى رسوله  في أعلى مقام قال (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {1} الإسراء) وقال في نوح  (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً {3} الإسراء) وهناك عبودية إختيارية وعبودية قسرية وهذه هنا عبودية اختيارية. إذن هناك نوعين من المكلّفين وهم أولهم الأبرار وهم يشربون من كأس كان مزاجها كافورا، وثانيهم المقرّبون الذين يشربون من العين خالصة. في قوله تعالى ﴿يشربون من﴾ عدّى الفعل بـ ﴿من﴾ وفي المقرّبين عدّى الفعل بالباء ﴿عيناً يشرب بها عباد الله﴾ وهذا يدل على أن جزاء المقربين أعلى من جزاء الأبرار ويقولون أن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، فكيف دلّ على ذلك؟ هناك جملة أمور تدل على ما ذكرنا: - أولاً بالنسبة للأبرار يُؤتى بكأس يشربون منها أما المقرّبون يشربون بها وهي تفيد الإلصاق بمعنى أقام بالعين وشري بها فإذن صار التلذذ بالنظر وبالشراب، - ثانياً الأبرار يشربون من كأس ممزوجة بالكافور وليست خالصة ﴿يشربون من كأس كان مزاجها كافورا﴾ وهي تُمزج بقدر أعمالهم في الدنيا أما المقرّبون فيشربون من العين صرفة خالصة ليست ممتزجة، - ثالثاً عدّى الفعل بالباء تدل على تضمين معنى روي به ﴿يشرب به﴾ بمعنى يرتوي به على خلاف الشرب الذي لا يدل على الإرتواء فالتعدية بالباء تدل على نزول في المكان والشرب الخالص والإرتواء منها.، ورابعاً قال تعالى في عباد الله يفجرونها تفجيرا بمعنى يُجرونها حيث شاءوا ويقال في الآية أنه معهم قضبان من ذهب في أيديهم يجرونها حيث شاءوا وهذا يدل على أنه ليس فيها عناء ولكنها تتم بسهولة. وهناك فرق بين جزاء الأبرار وجزاء المقرّبين. - ثم لو لاحظنا تكملة الآية ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ هؤلاء المقربون كما يقال يُعطون قصبان من ذهب أينما ضربوا تتفجر الماء خالصة من العين بأمر سهل في أي مكان يريدونه من أماكنهم وليس هناك مكان محدد لها. وعليه فإن يشرب بها تفيد الريّ والشراب بها خالصة صرفاً وفيها لذة النظر بالإضافة إلى الإقامة في المكان وامكانية تفجيرها أينما شاءوا من أماكنهم ولم يأت هذا الوصف مع الأبرار. ونسأل الله تعالى أن نشرب بها وعلينا أن نسأل الله تعالى ما هو أعلى وفي الأثر أن الله تعالى يعطي الناس أشياء كثيرة وأمثالهم لا يرون أن لهم مثل ما أعطى أؤلئك مع أن أعمالهم متساوية فيقول تعالى لهم هؤلاء سألوني فهل سألتموني؟ والله تعالى يُحب أن يُسأل ولذا علمنا الرسول  :" اللهم إني أسألك الفردوس الأعلى".

ﵟ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ﵞ سورة الإنسان - 5


Icon