الوقفات التدبرية

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ...

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً {7} وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً {8} بدأ تعالى الآية بذكر الوفاء بالنذر لأن الوفاء بالنذر واجب ثم جاء بعده ذكر الوفاء بالواجب فكأنه ذكر النيّة المقابلة لعموم العمل فكل عمل تقترن به النية الخالصة لله فكأن قوله تعالى ﴿يوفون بالنذر﴾ هو العمل و﴿يخافون يوماً﴾ هو النية ، وينبغي أن تكون النية مقابلة للعمل. وقوله تعالى ﴿كان شرّه مستطيرا﴾ بمعنى فاشياً منتشراً ويقال عن يوم القيامة كان شره مستطيرا بمعنى انتشر شرّه حتى ملأ السموات والأرض قر يبقى ملك مقرّب ولا تبي مُرسل إلا جثا على ركبتيه. وفي اللغة استطار الشيئ أي تفشّى الشيئ وبلغ أقصى مدى. وبعدها قال تعالى ﴿ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا﴾. وهنا يأتي السؤال على ماذا يعود الضمير في كلمة ﴿حبّه﴾؟ ذكر فيه أكثر من حالة وإن كان أظهرها على حبه يعني على حب الطعام مع حاجتهم إليه وهذا من باب الإيثار يطعمون الطعام مع أنهم محتاجون إليه مصداقاً لقوله تعالى (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ {92} آل عمران)، ويحتمل أيضاً أن يعود على حب الإطعام فيعود على المصدر (الإطعام) كقوله تعالى (اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، المائدة آية 8) هو هنا تعود على العدل وهؤلاء يطعمون الطعام بطيب نفس وبدون مَنّة ولا تكدير ، ويحتمل أيضاً أن يكون يعود الضمير على حب الله بمعنى ابتغاء وجهه كما تذكر الآية في نفس السورة (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً {9}). فالضمير إذن يعود على الطعام من باب الإيثار وعلى الإطعام من باب الإحسان وعلى حب الله وهو من باب الإخلاص. وقد قال قسم من المفسرين أن أعلى هذه الإحتمالات أن يكون من باب الإيثار، وهو في الحقيقة يجمع المعاني كلها. ويأتي سؤال هنا لماذا ذكر الله تعالى كلمة الطعام ﴿ويطعمون الطعام﴾ ولم يقل ﴿ويطعمون﴾؟ ذكر الطعام حتى يصحّ عودة الضمير عليه ولو حذف الطعام لما عاد الضمير عليه وهو أعلى الأوجه كما قلنا سابقاً وهو الإيثار، فذِكر كلمة الطعام أفاد ثلاثة معاني ولو حذف لأفاد المعنى لكن الضمير لن يعود على الطعام وهو الإيثار ﴿ويطعمون الطعام على حبه﴾. ثم ذكر ثلاثة أصناف من البشر بالترتيب التالي ﴿مسكيناً ويتيماً وأسيرا﴾ فتقديم المسكين على اليتيم واليتيم على الأسير يفيد جملة أمور: 1. التقديم بحسب الرتبة وحسب الحاجة: وتقديم المسكين لأن المسكين محتاج على الدوام وهو من المذكورين في باب الزكاة واليتيم قد لا يكون محتاجاً وقد يكون غني لكن المسكين يكون إطعامه على الوجوب والتطزع ، أما الأسير قج يكون كافراً والكافر لا يدخل في باب الوجوب على أفراد المسلمين إنما يدخل في باب الوجوب على الحاكم أو ولي الأمر. وبدأ بالواجب (الوفاء بالنذر) وكذلك بدأ بمن هو أولى وهو المسكين أولاُ ثم اليتيم ثم الأسير. 2. التقديم بحسب الكثرة: فالمساكين هم أكثر من اليتامى لأن اليتم يزول بالبلوغ أما المسكين فيبقى مسكيناً كذلك اليتامى أكثر من الأسرى لأن هؤلاء الأسرى لا يكونون إلا في وقت الحرب وهم أقل من اليتامى والمساكين وهذا ملحظ آخر للتقديم وهو تقديم الأكثر ثم الأقل. 3. وقد يكون للتقديم مسوّغ آخر وهو بحسب القدرة على التصرف. فالمسكين له الأهلية الكاملة على التصرف أما اليتيم فأهليته ناقصة حتى يبلغ أما الأسير فلا يمكن أن يتصرف حتى يأمر فيه صاحب الأمر. وهناك عدة أمور تسوّغ التقديم بهذه الصورة وعندما ذكر الأسرى كان مناسباً لما ذكره في عذاب الكافرين ﴿سلاسل وأغلالاً وسعيرا﴾ لأن الأسرى يقيّدون بالأغلال والسلاسل. ونأتي لسؤال آخر لماذا استعمل كلمة ﴿ويطعمون﴾ ولم يستعمل (ويتصدقون)؟ والجواب حتى لا يخُصّ ذلك الصدقات أو يخصّ من تجب عليهم الصدقات أو تجب لهم الصدقات وليس كل المسلمين تجب عليهم الصدقة أو تجب لهم الصدقة لكن أراد عموم فعل الخير سواء كان الفاعل غنياً أو فقيراً وساء كان المُطعَم تجب عليه أو لا ويشمل المتصدَق عليهم وغير المتصدَق عليهم . وكلمة تطعمون تدل على فعل الخير العام وهذا المعنى لم تكن لتدل عليه كلمة يتصدقون.

ﵟ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﵞ سورة الإنسان - 7


Icon