الوقفات التدبرية

(وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ...

(وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا {15} قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً {16}) بعدما ذكر الفاكهة ذكر الشراب بعدها وأنه يُطاف عليهم بها وذِكر المشروب بعد الطعام هو الجاري عليه في القرآن كله فحيث اجتمع الطعام والشراب في الدنيا أو الآخرة قدّم الطعام على الشراب (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) (وهو الذي يطعمني ويسقين) وغيرها. وذكر الطعام قبل الشراب لأن الطعام أهمّ. ثم قال تعالى ﴿قوارير من فضة﴾ والمعلوم أن القوارير تكون من زجاج فكيف جمع بين القوارير التي هي من زجاج وبين الفضة؟ ونقول أن الفضة هي فضة في صفاء القوارير وشفافيتها وهذه هي فضة الجنّة العجيبة. وقوله تعالى ﴿قدّروها تقديرا﴾ فيها معنيين الأول على مقدار حاجتهم لا أكثر ولا أقلّ والثاني على ما تشتهيه أنفسهم كيف تكون هيئة القوارير وشكلها أي قدّروها على ما يرغبه الشخص من هيئة وشكل. يأتون بما هو أحبّ لنفسهم والشراب نفسه مقدّر في شكل الإناء وترتيبه وفيما يُقدّم فيه. وذكر في الآية فضة وأكواب من فضة وفي آية سورة الزخرف قال تعالى (يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {71}) باستعمال ذهب وليس فضة فلماذا الإختلاف بين الإستعمال للفضة في آية سورة الإنسان والذهب في آية سورة الزخرف؟ إذا استعرضنا الآيات في سورة الزخرف (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ {70} يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {71} وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {72} لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ {73}) لو لاحظنا الآيات في سورة الإنسان والزخرف نلاحظ أنه: 1. في سورة الزخرف ذكر أنهم المتقون (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ {67}) ثم أضافهم إلى نفسه تعالى وهذا أشرف فخاطبهم (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ {68}) ثم طمأنهم من الخوف مخاطباً إياهم مباشرة ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ وهذه مرتبة أعلى مما جاء في آيات في سورة الإنسان حيث جاء فيها (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً {11}) 2. وجاء في الزخرف أنهم جمعوا بين الإيمان والإسلام (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ {69}) والإيمان هو التصديق بالقلب والإسلام هو الإنقيلد في العمل كما تذكر الآيات في القرآن ﴿الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ وأحياناً يُقصد بالمؤمن المسلم. أما ما ورد في آيات سورة الإنسان فهي جزء من صفات المتقين التي جاءت في الزخرف لأن فيها العمل فقط (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً {8}) والإيمان يدخل فيه عموم العمل الصالح . 3. في الزخرف ناداهم الله تعالى مخاطباً إياهم مباشرة ﴿ادخلوا الجنة﴾ أما في الإنسان فجاء قوله تعالى ﴿وجزاهم بما صبروا﴾ وما جاء في الزخرف هو أعلى مكانة ولم يكتف بهذا بل إنه تعالى في الزخرف أدخلهم هم وأزواجهم ﴿أنتم وأزواجكم﴾ وهذا لم يرد في سورة الإنسان وهذا يدل على زيادة الإكرام في سورة الزخرف. 4. وقال في الزخرف ﴿تُحبرون﴾ وفي الإنسان ﴿نضرة وسرورا﴾ والحبور أعمّ وهو يشمل السعادة والسرور والبهاء والجمال والنعمة والإكرام المبالغ فيه وسِعة العيش أما ما في سورة الإنسان فهو جزء مما ذُكر في سورة الزخرف. ففي الزخرف إذن شمل ما جاء في سورة الإنسان وزيادة. 5. وقال تعالى أيضاً في سورة الزخرف ﴿وفيها ما تشتهيه الأنفس﴾ ولم يذكر ذلك في سورة الإنسان ثم قال ﴿فيها خالدون﴾ ولم ترد في سورة الإنسان وكلها تدل على الزيادات في النعيم. 6. ثم ذكر في سورة الزخرف ﴿فيها فاكهة كثيرة﴾ ولم يذكرها في سورة الإنسان لذا ناسب أن يأتي بصحاف من ذهب في الأولى وقوارير من فضة في الثانية . 7. والأمر الآخر أنه في سورة الزخرف لم يذكر الفضة أبداً وجو السورة شاع فيها ذكر الذهب والتنعّم والزخرف ففيها جاء قوله تعالى (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ {33}) فإذا كان هذا للذين كفروا بالرحمن في الدنيا فكيف يكون جزاء المتقين في الآخرة أقل مما كان للكافر في الدنيا (سقف من فضة وعليها معارج) ؟ وسقف الفضة والمعارج هي أكثر من قوارير من فضة فكأنها تدل على أن الجنة جزاؤها أقل من الدنيا فلا يسمح جو السورة في الزخرف باستخدام قوارير من فضة فيها لأنه لا يناسب أن يعطي الله تعالى الكافر في الدنيا أكثر مما يعطي المتقين في الجنة. إذن ينبغي أن يكون للمتقين في الآخرة جزاء أعظم لذا جاء بصحاف الذهب جزاء المتقين في سورة الزخرف. 8. وفي سورة الزخرف ذكر تعالى أيضاً أن فرعون استكبر في نفسه وثم استخفّ بموسى  كما في قوله تعالى على لسان فرعون مخاطباً قومه (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ {53}) فكيف يناسب ذكر الفضة في السورة إذا كان فرعون المكتبر العالي في الأرض يستعمل الذهب؟ فالأفضل أن جاء تعالى بالفضة والذهب كل في مكانها الذي ناسب جو السورة ووضع كل تعبير في مكانه يناسب سياق الآيات في كلتا السورتين. هل البَدَل يفيد التوكيد؟ للبدل عدة أغراض منها:  أن يكون للإيضاح والتبيين  قد يكون للمدح أو الذمّ  قد يكون للتخصيص كما في قوله تعالى (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) الانسان).  التفصيل  قد يكون للتفخيم  قد يكون للإحاطة والشمول  وقد يكون للتوكيد أيضاً. وللبدل أنواع لا مجال لذكرها في هذا المقام منها الاشتمال وبعض من كُلّ وغيره ولكل نوع من أنواع البدل دلالة وسياق.

ﵟ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ﵞ سورة الإنسان - 15


Icon