الوقفات التدبرية

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ...

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)) الآية التي قبلها قال تعالى ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا﴾ ثم أمره بالصبر بعد ذكر تنزيل القرآن لأن التنزيل يستدعي الصبر لما فيه من قول ثقيل وأمور وتكاليف تستدعي الصبر (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) المزمّل) و (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) طه) ويحتاج أيضاً لصبر على الأذى لأنه سيؤذى بسببه لذا كان من المناسب بعدما ذكر تنزيل القرآن أن يذكر الصبر لأنه أمر يستدعي الصبر فقال تعالى ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾. دلالة كلمة ﴿حكم﴾: في اللغة قد يكون الحكم بمعنى الحكمة (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) الشعراء) وقوله تعالى (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) مريم) أي الحكمة. وقد تأتي بمعنى القضاء أو الفصل (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) غافر) وهنا أمره بالصبر لهما معاً أي أن يصبر لحكمة أرادها الله تعالى ولحكم الله وقضائه لأن قضاءه له حكمة بمعنى اصبر لحكم الله وقضائه لحكمة أرادها الله تعالى وهذا ما يُسمى التوسع في المعنى. ﴿وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ ما دلالة استخدام كلمة آثم وكفور؟ الآثم هو الذي يرتكب الإثم والإثم قد يكون ظاهراً وباطناً بدليل قوله تعالى (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) الأنعام) أو من أعمال القلب أو أفعال الجوارح. أما الكفور فهو المبالغ في الكفر وفيه دلالتان: الأولى نقيض الإيمان والثانية نقيض الشكر لذا قال تعالى في أول السورة (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)) والكفور المبالغ في الكفر بمعنى نقيض الإيمان هو الذي استعمل في القرآن (وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) الحج) و (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) الزخرف) والمبالغ في جحد النعمة والكفر قد يكون باطناً أو جحود باللسان. وكل كفور آثم وليس كل آثم كفور. ولو قال كافر لنهى عن صنف واحد وليس عن الصنفين الذين تدلان علهما كلمة كفور. ما دلالة استعمال ﴿أو﴾ ولم يأتي بواو العطف مثلاً؟ لو جاء بالواو لجاز له أن يُطيع أحدهما إنما استعمال ﴿أو﴾ دلّت على الأمر بأن لا يطيع واحداً منهما على سبيل الجمع أو الإفراد. والآثم هو اسم فاعل والأثيم صفة مبالغة وفي هذه الآية أراد تعالى أن لا يطيع الآثم سواء بالغ في الإثم أو لم يبالغ فلو قال أثيم مثلاً لكان فُهِم أن النهي فقط عن إطاعة الأثيم ويحق له أن يطيع الآثم وأما استخدام كلمة أثيم فهي تدل على النهي عن إطاعة الآثم وهو أقل الدرجات فمن باب أولى أن لا نطيع الأثيم. في سورة القلم قال تعالى (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)) باستخدام الأثيم لأنه لو لاحظنا ما ورد في السورة لوجدنا أن الله تعالى ذكر فيها كل صفات المبالغة (حلاّف، همّاز، مشّاء، مهين، منّاع للخير) (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)) فجو السورة جو مبالغة والأمر الآخر أن الذي يفعل كل هذه الأمور الذي سبقت ألا يكون أثيماً؟ بالطبع هو أثيم وليس آثم بل إن فعل كل واحدة من هذه الأفعال يجعله أثيماً وليس آثماً فكيف لو اجتمعت كل هذه الصفات في المعتدي فلا بد أن يكون أثيماً.

ﵟ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ﵞ سورة الإنسان - 24


Icon