الوقفات التدبرية

(نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا...

(نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)) علاقة هذه الآية بما قبلها: قال تعالى في هذه الآية ﴿نحن خلقناهم﴾ وفي الآية السابقة قال تعالى ﴿إنا نحن نزّلنا عليك القرآن تنزيلا﴾ وهذا يدل على أن الذي خلقهم وشد أسرهم ﴿نحن﴾ هو الذي أنزل عليهم القرآن ﴿نحن﴾ فينبغي لهم أن يسمعوا لكلام خالقهم ويطيعوا تنزيله فكأن الآية التي سبقت هي مقدمة لهم بأن يسمعوا ما أُنزل على الرسول . لماذا تقديم ضمير المتكلم ﴿نحن﴾ عن الفعل ﴿خلقناهم﴾؟ التقديم له أكثر من سبب وإن كان يجمعها الإهتمام لكن مداراته مختلفة. وهنا تقديم المعمول على العامل (نحن: مبتدأ) و(خلقناهم: خبر) وفي هذه الحالة الخبر جملة فعلية وهذا يفيد القصر في الغالب بمعنى لأنه لم تكن هناك جهة أخرى خلقت أو تشاركه سبحانه في الخلق فهو وحده سبحانه متفرّد بالخلق (بمعنى نحن خلقناهم حصراً) وكذلك قوله تعالى ﴿إنا نحن نزلنا عليك القرآن﴾ تفيد الحصر. فالذي خلقهم حصراً هو الذي نزّل القرآن حصراً فعليهم أن يطيعوه. أوجه التقديم: يجمع التقديم تحت عبارة: كأنما يقدمون الذي هم ببيانه وقد يقدّم الأفضل وقد يقدّم المفضول حسب السياق وقد يقدّم كلمة على أخرى في مكان ويؤخرها نفسها في مكان آخر ولكلٍ مقامه في البلاغة. وشددنا أسرهم: بمعنى أحكمنا خلقهم أي أحكمنا توصيل مفاصلهم وأحكمناها وثبتناها (أي إحكام الربط). والأسر هي المفاصل والعظام وما إلى ذلك. فهو الذي أحكم خلقهم وشد أسرهم وقد قال تعالى في آية أخرى ﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾ وهذا من تمام النعمة على الإنسان ومن تمام النعمة أن يطيعوه، فالخلق نعمة وشد الأسر نعمة وهو القادر أن يفعل ما يشاء ﴿وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا﴾. لماذا جاء قوله ﴿وشددنا أسرهم﴾؟ ألا يمكن أن يقال نحن خلقناهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم؟ نحن خلقناهم هذا أمر وشددنا أسرهم هذا أمر آخر بعد الخلق وهي نعمة أخرى بعد الخلق ولو لم يقلها للأُغفلت نعمة من نعم الله تعالى. فهو تعالى جعلهم أقوياء وهذه نعمة وليس فقط الخلق هو النعمة. مثل قوله تعالى ﴿هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة﴾ فهناك عدة أمور بعد الخلق ومن إتمام النعمة أن يشد أسرهم فيكونوا أقوياء وخلفاء في الأرض. القرآن كثيراً ما يستعمل الفعل ﴿شدّ﴾ ومضاعفاته مثال قوله تعالى (واشدد به أزري) فهل للفعل شدّ دلالة خاصة في اللغة؟ شدّ في اللغة بمعنى ربط وأحكم وأوثق وشدّ. وشدّ مضعّف والتضعيف في الغالب فيه قوة وشدّ فعل ثلاثي ليس مزيداً لكن من الناحية الصوتية تجعل حرف في حرف فتعطيه قوة. في أول السورة قال تعالى ﴿إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج﴾ وفي هذه الآية قال تعالى ﴿نحن خلقناهم﴾ فلماذا التوكيد بـ ﴿إن﴾ في الأولى؟ في اول السورة أكّد بـ﴿إن﴾ وهنا لم يؤكّد لأنه في أول السورة تحدث عن خلق الإنسان بعد أن لم يكن شيئاً مذكورا وهي أصعب من الخلق من أب وأم ثم يضع فيه القابلية على التوالد (وهذه هي البداية) وهي أصعب مما بعدها ﴿نحن خلقناهم﴾ فهذه تأتي من سلسلة الآباء من الأبناء. هذا أمر والأمر الآخر كونه خلقهم أمر غير منازع فيه عند كفار قريش وكثير من الكفار لو سألتهم من خلقهم ليقولون الله. لكنهم ينازعون في أن الخلق لم يكن ثم كان بمعنى أنه ليس له بداية كما يقول الفلاسفة والدهريون وينسبون الخلق إلى سلسلة الوجود ليس له بداية فينكرون ﴿وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر﴾. فالذي ينازع فيه الفلاسفة إذن هو كون هناك بداية للمخلوقات والخلق (سؤالهم هل هناك بداية؟) وعليه احتاج الأمر إلى توكيد في الآية أول السورة ﴿إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج﴾. وهناك أمر آخر قوله تعالى ﴿نبتليه﴾ ذكر تعالى أن الخلق الأول للإبتلاء وهذا أيضاً أمر منازع فيه وكفّار قريش كانوا ينكرون هذا ويقولون هل خلق الله الإنسان ليبتليه ثم يحاسبه؟ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) سبأ) وكثير من الناس ينكرون هذا الأمر أيضاً حتى لو اعتقدوا فعلاً أن الله هو خالقهم. ونلاحظ من كل ما ذكرنا أن الآية في أول السورة احتاجت إلى توكيد فجاء بـ ﴿إن﴾ في قوله تعالى ﴿إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج﴾ وهو الخلق الأول والبداية وخُلق للإبتلاء وكلها تقتضي التوكيد بخلاف الآية الثانية ﴿نحن خلقناهم وشددنا أسرهم﴾. ﴿وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا﴾ جاء هنا بـ ﴿إذا﴾ دون ﴿إن﴾ وكما سبق وذكرنا في حلقات سابقة أن استعمال ﴿إذا﴾ يكون للقطع لكثير الوقوع وللمتيقن وقوعه بخلاف ﴿إن﴾ التي تستعمل إذا كان هناك احتمال للوقوع أو المشكوك في وقوعه. واستعمال ﴿إذا﴾ هنا يدل على أن الله تعالى سيبدّل أمثالهم ويأتي بأناس مؤمنين مكانهم فالمشيئة حاصلة وقد تمّت.

ﵟ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ ۖ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ﵞ سورة الإنسان - 28


Icon