الوقفات التدبرية

قوله تعالى:﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا...

قوله تعالى:﴿وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِين﴾[الجمعة: 11]. جاء التعبير بـ﴿ إِذَا ﴾ الشرطية الدالة على تحقق الوقوع؛ لأن الشرط وجزاءه قد وقعا قبل نزول الآية, حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلميخطب بأصحابه خطبتي الجمعة بعد صلاتها, إذ جاءت تجارة من الشام, فأنصرف كثير من الصحابة – رضوان الله عليهم- نحوها, وتركوا الرسول صلى الله عليه وسلم مع قليل من أصحابه. فنزلت الآية, فهي إخبار عما سبق. وههنا وقفة يسيرة مع قوله: ﴿انْفَضُّوا إِلَيْهَا ﴾, فالأصل في الضمير أن يعود على أقرب مذكور, وهنا الضمير الذي جر بـ﴿إلى﴾ كان الأصل فيه أن يعود على اللهو, فيقال﴿انفضوا إليه﴾؛ لأنه الأقرب, ولكنه عاد مؤنثاً إلى التجارة, وإن كانت أبعد, فقال: ﴿انْفَضُّوا إِلَيْهَا ﴾. وللعلماء في تعليل ذلك أقوال, منها: أن التجارة أجذب للقلوب, وأشغل لها عن طاعة الله من اللهو, وأن المشتغلين بالتجارة أكثر عدداً من المشتغلين باللهو, أو لأنها أكثر نفعاً من اللهو, فهي أصل, وهو تبع لها, وكذلك إذا وقع النهي عن الانشغال بالتجارة – وهي مباحة- عن ذكر الله فالتحذير من الانشغال باللهو – وهو غير مباح – يكون من باب ﴿الأولى﴾, وليس العكس كذلك, ثم إن التجارة كانت سبباً في انفضاض الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو يخطب يوم الجمعة, وبسببهم نزلت الآية, فناسب تقديم ما كان سبباً على ما جاء تبعاً, وهو ضرب الطبول, أو اللهو. والذي أراه أن الضمير يمكن أن يرجع إلى التجارة واللهو معاً, لكن لم يعد مذكراً لتدخل التجارة أيضاً, ولو عاد مذكراً لاقتصر على اللهو, ولم يغلب المذكر على المؤنث – كما هي عادة العرب-؛ لأن اللهو غير عاقل. والله أعلم. وتحسن الإشارة هنا إلى أن لتكرار حرف الجر﴿مِنَ ﴾ في قوله: ﴿مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ﴾فائدة, هي قطع إمكان الظن بأن ما عند الله خير من التجارة واللهو مجتمعين فقط, فبتكرار حرف الجر دلت الآية على أن ما عند الله من الرزق والثواب خير من اللهو, وخير من التجارة, منفردين, أو مجتمعين. والله أعلم.

ﵟ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﵞ سورة الجمعة - 11


Icon