الوقفات التدبرية

- قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ...

- قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ١٠٦ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِي رَحۡمَةِ ٱللَّهِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾ [آل عمران: 106-107]. سؤال: لماذا قدّم أولاً من تبيضّ وجوههم على من تَسودّ فقال: ﴿يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوه﴾، ثم قدّم بعده من تسودّ وجوههم على من تبيضّ، فقال: ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ﴾ وقال بعده: ﴿وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ﴾. وكان المظنون أن يكون التفصيل على نسق ما بدأ، فيقول أولًا: ﴿وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ﴾ ويقول بعده: ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ﴾ نظير قوله تعالى في سورة هود: ﴿فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيدٞ١٠٥ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمۡ فِيهَا زَفِيرٞ وَشَهِيقٌ . . . وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلۡجَنَّةِ خَٰلِدِينَ فِيهَا﴾ (105-108) فإنه لما قال: ﴿فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيدٞ﴾ فقدم الشقي كان التفصيل على نسق ذلك، فقال: ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ﴾ فقدم الذين شقوا على الذين سعدوا فما الفرق؟ الجواب: إن التقديم والتأخير في آل عمران جرى بحسب القرب والبعد، فمَن كان قريبًا قدم القول فيه، ومن كان بعيدًا أخرّ القول فيه. وإيضاح ذلك أن الكلام كان على صنفين من الناس أحدهما مخاطب والآخر غائب، ولا شك أن المخاطب أقرب من الغائب فقدّم ما يتعلق بالمخاطب وأخّر ما يتعلق بالغائب. وبيان ذلك أن السياق في آل عمران إنما هو في خطاب المؤمنين فقد خاطبهم بقوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ يَرُدُّوكُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ كَٰفِرِينَ١٠٠﴾ [آل عمران: 100]، ويستمر الكلام في خطابهم فيقول: ﴿وَكَيۡفَ تَكۡفُرُونَ وَأَنتُمۡ تُتۡلَىٰ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمۡ رَسُولُهُۥ . . . ١٠١ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ١٠٢ وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ . . . ١٠٣ وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ . . . ١٠٤ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ١٠٥ يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهٞۚ . . . ١٠٦﴾ [آل عمران: 101-106] فالمؤمنون فهم المخاطبون وهم الذين تبيض وجوههم. والذين تفرّقوا واختلفوا هم الذين تسودّ وجوههم وهم في السياق غائبون، ألا ترى إلى قوله: ﴿وَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾ فأخبر عنهم بضمير الغيبة؟ فقدم القول في المخاطبين كما ذكرنا فقال: ﴿يَوۡمَ تَبۡيَضُّ وُجُوهٞ﴾. وأما الكلام بعد ذلك فإن الذين اسودّت وجوههم هم المخاطبون فيه، وأما الذين ابيضت وجوههم فهم غائبون. فقد قال: ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ﴾. فقد خاطبهم بقوله: ﴿أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِيمَٰنِكُمۡ﴾، ﴿فَذُوقُواْ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ﴾. وأما الذين ابيضت وجوههم فهم هنا غائبون فقد قال فيهم: ﴿وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبۡيَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِي رَحۡمَةِ ٱللَّهِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُون﴾ فأخبر عنهم بضمير الغيبة. فقدّم القول في المخاطبين كما فعل أولًا، فجرى الكلام على نسق واحد في التقديم والتأخير. وأما التقديم والتأخير في سورة هود فقد جرى على نهج واضح أيضًا، فإن السياق فيها في ذكر الأمم الكافرة الذين عصوا رسلهم وأنزل بهم العقوبات، ثم عقّب بعد ذلك بقوله:﴿ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡقُرَىٰ نَقُصُّهُۥ عَلَيۡكَۖ مِنۡهَا قَآئِمٞ وَحَصِيدٞ١٠٠ وَمَا ظَلَمۡنَٰهُمۡ وَلَٰكِن ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡۖ فَمَآ أَغۡنَتۡ عَنۡهُمۡ ءَالِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٖ لَّمَّا جَآءَ أَمۡرُ رَبِّكَۖ وَمَا زَادُوهُمۡ غَيۡرَ تَتۡبِيبٖ﴾ [هود: 100-101] ، فالسياق في الأشقياء من الناس فقدّم الأشقياء فقال:﴿فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيد﴾ وأما التفصيل فيما بعد فقد جرى على نسق ما ذكر لأنهم كلهم غائبون فهم بمنزلة واحدة، فقد قال: ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمۡ فِيهَا زَفِيرٞ وَشَهِيق﴾ وقال بعدها بخلاف ما عليه السياق في آل عمران فإن منهم مخاطبًا ومنهم غائب، فجرى التفصيل في هود على ما أجمل، فلما قال: ﴿فَمِنۡهُمۡ شَقِيّٞ وَسَعِيد﴾ فقدم الأشقياء فصّل الكلام على نسق ذلك، فقال: ﴿فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ . . . وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ﴾ فكان كل تعبير مناسبًا في سياقه الذي ورد فيه. (أسئلة بيانية في القرآن الكريم - الجزء الأول – صـ 37 : 39)

ﵟ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﵞ سورة آل عمران - 106


Icon