الوقفات التدبرية

قال تعالى في سورة النساء: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ...

قال تعالى في سورة النساء: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ وَيَهۡدِيَكُمۡ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ٢٦ وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيۡلًا عَظِيمٗا٢٧ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ ضَعِيفٗا﴾ [النساء: 26-28]. سؤال: 1- لماذا رتب الآية السادسة والعسرين على هذا النحو، أي قدّم البيان ثم الهداية ثم التوبة؟ 2- لماذا قدّم لفظ الجلالة على الفعل ﴿يريد﴾ في الآية السابعة والعشرين؟ 3- لماذا عدّى فعل الإرادة باللام في الآية السادسة والعشرين، وعدّاه بنفسه في الآية التي بعدها؟ الجواب: 1- بالنسبة إلى التقديم والتأخير في الآية الأولى فإن هذا هو الترتيب الطبيعي، فإنه قدّم البيان على هداية السنن؛ لأن البيان مقدّم على الهداية، فالهداية تكون بعد البيان، وإلا فإلى أي شيء يهديه؟ وأما التوبة فهي بعد البيان والهداية، فإنها تكون بعد التقصير في الاتباع، وارتكاب الذنوب والمعاصي. 2- قدّم لفظ الجلالة على الفعل ﴿يريد﴾ في الآية السابعة والعشرين لأكثر من سبب. منها: أنها بمقابل ما يُريده الذين يتبعون الشهوات. ومنها: أن هذا التقديم يُفيد الاهتمام والتوكيد والمبالغة في إرادة التوبة من الله. ومن جهة أخرى أن هذا التقديم يُفيد الحصر إضافة إلى ما تقدم، فإن التوبة مُختصة بالله حصرًا، فلا يتوب غيره على العبد ولا يمكنه ذلك. قد تقول: ولم كان هذا الموضع موضع تأكيد ومبالغة؟ فنقول: إن ذلك لأكثر من سبب: منها: أن التوبة من الله أهم شيء بالنسبة إلى العبد ولا يقوم شيء مقامها، فإنه إذا لم يتب الله على العبد هلك. ثم إن السياق يدل على ذلك، فقد كرر إرادة التوبة، فقال: ﴿وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ﴾ ثم قال: ﴿وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ﴾ وقال إضافة إلى ذلك: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ﴾ والتوبة من الله تخفيف عن العبد. ومما يدل على ذلك أيضًا أنه قال: ﴿وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ﴾ بمقابل ما ذكره من إرادة الفجار، فقد قال: ﴿وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيۡلًا عَظِيمٗا﴾. وكان المظنون بمقابل ذلك أن يقول: (والله يريد أن تستقيموا) مثلًا أو أن تطيعوه، فإن الاستقامة تُقابل الميل، ولكنه لم يقل ذلك، وإنما قال: ﴿وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ﴾ فذكر ما هو أخف، ولا شك أن ذكر هذه الإرادة بمقابل ما يريده الذين يتبعون الشهوات رحمة وتخفيف. ثم ذكر أن الإنسان خُلق ضعيفًا، والضعيف به حاجة إلى التخفيف والتوبة من التخفيف. ثم إن السياق قبل هذه الآيات في ذكر التوبة، فقد قال:﴿وَٱلَّذَانِ يَأۡتِيَٰنِهَا مِنكُمۡ فَ‍َٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُواْ عَنۡهُمَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابٗا رَّحِيمًا١٦ إِنَّمَا ٱلتَّوۡبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٖ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٖ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيۡهِمۡۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمٗا١٧ وَلَيۡسَتِ ٱلتَّوۡبَةُ لِلَّذِينَ يَعۡمَلُونَ ٱلسَّيِّ‍َٔاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ إِنِّي تُبۡتُ ٱلۡـَٰٔنَ وَلَا ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمۡ كُفَّارٌۚ﴾ ﴿16 – 18﴾ فاتضح أن سياق الآيات وما قبلها إنما هو في التوبة، فاقتضى ذلك الاهتمام والبالغة في إرادة التوبة. واقتضى تقديم لفظ الجلالة من كل وجه. قد تقول: لقد اتضح سبب تقديم لفظ الجلالة في قوله: ﴿وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيۡكُمۡ﴾ فلم لم يُقدم الذين يتبعون الشهوات فيقول: (والذين يتبعون الشهوات يريدون أن تميلوا ميلًا عظيمًا) حتى يكون التعبيران على نسق واحد؟ فنقول: إن الذين يتبعون الشهوات ليسوا وحدهم الذين يريدون للمسلمين أن يميلوا ميلًا عظيمًا، بل هناك غيرهم ممن يريد ذلك من المناقين وأهل الكتاب والمشركين وغيرهم ممن يأكل قلبه الحسد والحقد أو لغير ذلك كما قال تعالى: ﴿وَدَّ كَثِيرٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ لَوۡ يَرُدُّونَكُم مِّنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِكُمۡ كُفَّارًا حَسَدٗا مِّنۡ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡحَقُّۖ﴾ [البقرة: 109]. وقال: ﴿۞لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَٰوَةٗ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۖ﴾ [المائدة: 82]. وقال: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرٗا مِّنۡهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗاۖ﴾ [المائدة: 68]. وقال في المنافقين: ﴿۞فَمَا لَكُمۡ فِي ٱلۡمُنَٰفِقِينَ فِئَتَيۡنِ وَٱللَّهُ أَرۡكَسَهُم بِمَا كَسَبُوٓاْۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهۡدُواْ مَنۡ أَضَلَّ ٱللَّهُۖ وَمَن يُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ سَبِيلٗا٨٨ وَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءٗۖ﴾ [النساء: 88-89]. فذكر أن الذين يتبعون الشهوات يريدون أن تميلوا ميلًا عظيمًا ولم يقصر ذلك عليهم فلا يُناسب التقديم 3- وأما تعدية فعل الإرادة باللام مرة وبنفسه مرة أخرى فإن التعدية باللام تحتمل أمرين: الأول: أن تكون اللام مزيدة للتوكيد، وهذا كثير في أفعال الإرادة وذلك نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذۡهِبَ عَنكُمُ ٱلرِّجۡسَ أَهۡلَ ٱلۡبَيۡتِ﴾ [الأحزاب:33]، وقوله: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطۡفِ‍ُٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ﴾ [الصف: 8]، والآخر: أن تكون اللام للتعليل أي إرادته لهذا الغرض. وكلاهما يدل على المبالغة والقوة وهو آكد وأقوى من التعدية بنفسه فالتعبير (يريد الله ليتوب عليكم) آكد من: (يريد الله أن يتوب عليكم). وقد ذكر الله الأمرين فإن قوله: ﴿وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ﴾ في الآية الأولى أي في قوله: ﴿يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمۡ . . . وَيَتُوبَ عَلَيۡكُمۡۗ ٢٦﴾ معطوف على إرادة اللام. وفي الثانية مفعول به للفعل ﴿يريد﴾. فتكون إرادة الله للتوبة مطلوبة مؤكدة على كل حال، وهذا يدل على عظيم رحمة الله بخلقه. ولما كانت الآية الأولى ذكرت أمورًا في غاية الأهمية منها البيان لما يريده الله وهداية الخلق لما يريد ومنها التوبة جاء بفعل الإرادة معدي باللام. ولما كانت الآية التي تليها مندرجة في مطلوب الآية السابقة وهي إرادة التوبة وليس فيها ما في الآية التي قبلها لم تحتج إلى اللام. وقد تقول: ولِمَ لَم يقدم لفظ الجلالة في الآية الأولى فيقول: (الله يريد ليبين لكم)؟ فنقول: إن هذا الموطن لا يقتضي التقديم لأنه لم يذكر أن جهة أخرى تريد غير ذلك، ولا هو موطن تعريض بجهة أخرى تريد غير هذا الأمر وإنما هو إخبار عن إرادة الله لذلك، بخلاف الآية التي تليها فإنه ذكر جهة أخرى تريد غير ما يريده الله للمؤمنين. فلا يناسب التقديم في الآية الأولى، والله أعلم. (أسئلة بيانية في القرآن الكريم - الجزء الأول – صـ 42 : 46)

ﵟ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﵞ سورة النساء - 26


Icon