الوقفات التدبرية

قال تعالي في سورة الرعد : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ...

قال تعالي في سورة الرعد : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ [19] الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ [20] وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ [21] وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } [ الرعد : 19 – 22 ] . سؤال : لماذا جاء قسم من الصلات بالفعل المضارع , والقسم الآخر بالفعل الماضي ؟ الجواب : يمكن أن نضع إجابة موجزة بما ياتي : 1- ما كان له وقت محدد , أو ليس مستمرا استمرار بقية الصفات , غبر عنه بالفعل الماضي , وهو إقامة الصلاة والانفاق . 2- ما كان سابقا لكل الأوصاف المذكورة , عبر عنه بالفعل الماضي وهو الصبر , ولم يرد في القرآن صلة إلا بالماضي . 3- وما عدا ذلك , وهو المستمر مما ليس له وقت محدد عبر عنه بالفعل المضارع . فقوله : ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ ﴾ عام يشمل عموم جميع أوامره ونواهبه , وهو مستمر بالليل والنهار . وقوله : ﴿ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ﴾ توكيد لما قبله , ولما كان ما قبله مستمرا أيضا , ويشمل أيضا جميع ما يعطونه للناس من مواثيق . وقوله : ﴿ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾ يشمل عموم ما أمر به من الاطعام , وصلة الرحم وعموم ما أمر الله به أن يوصل , وقوله : ﴿ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ﴾ يفيد الاستمرار وعدم الانقطاع , فهو مستمر في كل حين . ونحوه قوله : ﴿ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ﴾ . وأما قوله : ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ ﴾ فإنه جاء به بالفعل الماضي ؛ لأنه أسبق من كل ما ذكر , ولأن تلك الصلات مترتبة علي حصول الصبر وتقدمه عليها . ولذا لم يرد الصبر صلة إلا بصيغة الماضي في القرآن الكريم . قال تعالي : ﴿ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ ﴾ [ الشوي : 43 ] , وقال : ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ [ هود : 11 ] , وقال : ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ ﴾ [ الرعد : 22 ] , وقال : ﴿ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [ النحل : 42 ] , وقال : ﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم ﴾ [ النحل : 96 ] . وقوله : ﴿ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ ﴾ عبر عنها بالماضي ؛ لأن لها أوقاتا محددة , وليست مستمرة استمرار الصفات الأخري كما ذكرنا , ولتحققها وتمكنها من أنفسهم . ثم إنه أوقع الماضي صلة احتمل أن يراد به المستقبل , وذلك نحو قوله تعالي : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [159] إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [160]} [ البقرة : 159 – 160 ] . فقوله ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ ﴾ يفيد الاستقبال أي : يتوبون ويبينون ؛ لأنه واقع بعد الكتمان , والكتمان عبر عنه بالمضارع . وقوله : ﴿ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾ ليس ذلك مستمرا استمرار ما قبلها , وهو دون الصلاة التي تتكرر خمس مرات في اليو والليلة , فجاء بالفعل ماضيا كما ذكرنا . وقوله : ﴿ وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ﴾ جاء به المضارع ؛ لأن ذلك ليس له وقت محدد كالصلاة والانفاق الواجب . ثم إن هذا له حالتان : إنه إذا أتوا بمعصية درؤوها ودفعوها بالتوبة والحسنة , كما قال تعالي : ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ﴾ هود : 114 ] , وكما قال - صلي الله عليه وسلم - : " واتبع السيئة الحسنة تمحها " . وأنهم لا يقابلون الشر بالشر , بل بالاحسان . والانسان كثيرا ما يسئ أو يساء إليه , ويدرأ ذلك كله بالحسنة . جاء في ( روح المعاني ) في قوله : ﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [ الرعد : 22 ] : ويظهر أن اختصاص هذه الصلة بالماضي , وما تقدم بالمضارع أن ما تقدم قصد به الاستصحاب والالتباس , واما هي مترتبة علي حصول الصب , وتقدمه عليها . ولذا لم تأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي ؛ إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها " . (أسئلة بيانية في القرآن الكريم الجزء الثاني ص : 71)

ﵟ ۞ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﵞ سورة الرعد - 19


Icon