الوقفات التدبرية

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ...

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ) ﴿يَوْمَ يَقُولُ﴾ … بدل ﴿يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِين(12)﴾ (1) ويجوز أيضاً أن يكون منصوباً على تقدير ﴿اذكر﴾ (2). وذكر المنافقين والمنافقات ليدل على أن كل فرد من الجنسين ينال جزاءه ولا يشفع لأحدهما قرابة فلا تغني المؤمنة عن قريبها المنافق أو قريبتها المنافقة. ولا المؤمن عن قريبه أو زوجته المنافقة. ولا تقول المنافقة إني كنت تبعاً لزوجي أو أخي أو أبي فإن كل واحد مسئول عن نفسه وعما قدم أو أخر. ﴿انْظُرُونَا﴾ أي انتظرونا غير أنهم لم يقولوا (انتظرونا) لأن الانتظار فيه تمهل وإبطاء. والمؤمنون يسرعون أو يسرع بهم إلى الجنة، فطلبوا انتظاراً قليلاً أو تمهلاً قليلاً. وقد أدركوا أنهم لو طلبوا انتظارا لم يجابوا. ولو كان في الوقت فسحة لساغ طلب الانتظار كما في قوله تعالى ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ - يونس (102) فقال﴿انْتَظِرُوا﴾ . وقال ﴿إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ لأن في الوقت متسعاً. جاء في (نظم الدرر): وكان الفعل جرد في قراءة الجماعة لاقتضاء الحال الإيجاز بغاية ما توصل المقدرة إليه خوف الفوت لأن المسئولين يسرعون إلى الجنة كالبرق الخاطف (3). قبل ويجوز أن يكون المعنى (انظروا إلينا) لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به (4). ﴿نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾ أي نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به (5). وقالوا﴿ نَقْتَبِسْ﴾ ولم يقولوا ﴿نأخذ﴾ لأن الاقتباس لا ينقص من المقتبس منه بخلاف الأخذ فإنك إذا اقتبست من النار فإن ذلك لا ينقصها بخلاف ما إذا أخذت منها. والمعنى نستفد منه فلا ينقص فأنظرونا. وقالوا ﴿نَقْتَبِسْ﴾ ، ولم يقولوا (نقبس) لأن الاقتباس أبلغ من القبس وذلك دليل على عظم نور المؤمنين وهو لا ينقص بالاقتباس. وقالوا ﴿مِنْ نُورِكُمْ ﴾ ولم يقولوا (من النور الذي معكم) للدلالة على أنه نورهم هم. قيل: يعطى يوم القيامة كل أحد نوراً على قدر عمله ... ثم على ذلك تغشاهم ظلمة فتطفئ نور المنافقين فهنالك يقول المنافقون انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ كقبس النار (6). ﴿قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا﴾ لم يقل ﴿قالوا﴾ بل ﴿قِيلَ﴾ : ويظهر من إسناد ﴿قِيلَ﴾ : بصيغة المبني للمجهول أن قائله غير المؤمنين وإنما هو من كلام الملائكة السائقين للمنافقين. وتكون مقالة الملائكة للمنافقين تهكما إذ لا نور وراءهم (7). و﴿وَرَاءَكُمْ﴾ : إما أن يكون ظرفاً مؤكداً فإن الرجوع إنما يكون إلى الوراء وإما أن يكون اسم فعل بمعنى ﴿ارجعوا﴾ فيكون أيضاً مؤكداً لفعل الأمر (8). ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ﴾ قيل: الباء في ﴿بِسُورٍ﴾ زائدة للتوكيد والتقدير: ضُرب بينهم سور (9). وقيل ضمن ﴿ضُرِبَ﴾ معنى ﴿حجز﴾ أي حجز بينهم بسور ولذلك عدي بالباء أي ضرب بينهم سور للحجز به بين المنافقين والمؤمنين (10). والسور هو ما أحاط بالشيء من بناء وغيره. وقال﴿ لَهُ بَابٌ﴾ لئلا يظن أن المؤمنين محتجزون فيه وإنما ينفذون منه إلى مرادهم وهو الطريق إلى الجنة والله أعلم. فالمنافقون لا يتمكنون من الدخول فيه ليلتقوا بالمؤمنين والمؤمنون يتمكنون من الخروج منه. ووصف السور بأن باطنه فيه الرحمة وهي الجهة التي فيها المؤمنون. وأن ظاهره يأتي العذاب من جهته للمنافقين ولمن حقت عليه كلمة العذاب. وهذا السور، كما ترى. يخالف باطنه ظاهره كما أن المنافقين يخالف باطنهم ظاهرهم فهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر وذلك السور باطنه الرحمة وظاهره من قبله العذاب وهو تناظر لطيف بين السور والمنافقين في اختلاف الباطن عن الظاهر. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 257 إلى ص 259. (1) تفسير الرازي 26/224. (2) أنظر روح المعاني 27/269. (3) نظم الدرر 7/444. (4) الكشاف 4/63. وأنظر تفسير الرازي 29/225، روح المعاني 27/270. (5) الكشاف 4/63. (6) تفسير الرازي 29/226. (7) التحرير والتنوير 27/382. (8) أنظر روح المعاني 27/271. (9) ينظر تفسير الرازي 29/227، روح المعاني 27/271.

ﵟ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﵞ سورة الحديد - 13


Icon